أحدث عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة، في ما يزيد على شهرين، إبادة مماثلة لتلك التي تعرضت لها مدينة حلب السورية بين عام 2012 إلى 2016، والتي تعرضت لها ماريوبول الأوكرانية على أيدي القوات الروسية، وتسبب القصف الإسرائيلي في دمار أكبر من ذلك الذي تعرضت له ألمانيا على يد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وقد قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي من المدنيين أكثر من هؤلاء الذين قتلتهم في ثلاث سنوات الحملة التي شنها التحالف الدولي الذي تزعمته الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
تجاوز عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا في غزة 20 ألف قتيل، وما زال العدد في ازدياد كل يوم بل كل ساعة، فبات قسم كبير من المجتمع الدولي يطالب بوقف عاجل لإطلاق النار.
قال المؤرخ العسكري الأمريكي روبرت بيب، إن قوات الحلفاء هاجمت بين عام 1942 وعام 1945 قرابة 51 مدينة وبلدة ألمانية كبرى، ودمرت نحو 40 % إلى 50 % من المناطق الحضرية. وقال بيب إن هذه النسبة تعادل 10 % من مجموع المباني في ألمانيا، أما التدمير في غزة فقد طال حتى الآن نحو 33 % من مبانيها، وذلك مع أن القطاع منطقة مكتظة بالسكان لا تكاد مساحتها تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً. ومن هنا يخلص بيب إلى أن الحملة الإسرائيلية على غزة "إحدى أشد الحملات العقابية للمدنيين كثافة في التاريخ"، بل "يمكن إدراجها بلا ريب في الربع الأول من قائمة أكثر حملات القصف تدميراً على الإطلاق".
زعم الاحتلال أن لحملته العسكرية هدفين: القضاء على المقاومة، وإنقاذ الأسرى (نحو 129 أسيراً) الذين ما زالوا محتجزين لدى حركة المقاومة حماس.
وها نحن في الأسبوع الثاني عشر من الحرب، وتزعم إسرائيل أنها دمرت الكثير من مواقع حماس ومئات من فتحات الأنفاق، وقتلت 7 آلاف من مقاتلي حماس الذين يقدر عددهم بنحو 30 ألفاً إلى 50 ألف مقاتل تقريباً. ومع ذلك، لا يزال قادة الاحتلال يقولون إن السبيل الوحيد لتحرير المحتجزين هو المزيد من الضغط العسكري المكثف.
في المقابل، تخشى بعض عائلات المحتجزين أن يعرِّض القصف ذويهم للخطر. وقال المحتجزون الذين أُطلق سراحهم خلال الهدنة التي استمرت أسبوعاً من الشهر الماضي، إن مقاتلي المقاومة كانوا ينقلونهم من مكان إلى آخر لتجنُّب القصف الإسرائيلي، وأشاروا إلى أن بعضهم أصيب خلال هذا القصف. وقد زاد ذلك باطرادٍ من حدة الانتقادات الداخلية للحكومة الإسرائيلية.
تأثير الرئيس الأمريكي جو بايدن
الرئيس الأمريكي جو بايدن في موضع لا يُحسد عليه هذه الأيام، فحملةُ إعادة انتخابه مقبلة على معركة عصيبة، وقد كان لقراراته المرتبطة بالحرب على غزة نصيب كبير في زيادة صعوبة هذه المعركة.
قسم كبير من حلفاء الحزب الديمقراطي ومؤيديه في الولايات المتحدة بات يطالب بمقاطعة الانتخابات الرئاسية وعدم التصويت لبايدن. وكشفت عدة استطلاعات أن 70 % من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً يؤيدون النضال الفلسطيني. ولم يعد تأييد الحكومة الإسرائيلية محل إجماع من التجمعات والتنظيمات اليهودية ذاتها. وكان أكبر دليل على ذلك المشاركة الكبيرة لليهود بين آلاف المتظاهرين الذين احتشدوا منذ أيام أمام منزل السيناتور الأمريكي تشاك شومر لحثِّه وغيره من السياسيين على وقف المساعدات للجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وجبت الإشارة إلى أنه لا يمكن لأي مرشح ديمقراطي أن يفوز بالانتخابات من دون أغلبية التأييد من الناخبين الشباب والأمريكيين ذوي الأصول العربية، هذا فضلاً عن أن الخلافات في تأييد إسرائيل قد تسربت إلى الجاليات اليهودية أيضاً. ومن ثم، تبدو آمال بايدن في إعادة الانتخاب مناقضة لإصراره على تقديم الدعم الأعمى لإسرائيل التي لا تتوقف عن قتل المدنيين الفلسطينيين.
في الواقع الأمر، يملك الرئيس الأمريكي نفوذ أكبر بكثير على إسرائيل من ذلك الذي يبدي العزم على استخدامه، وأكبر حتى من قدر النفوذ الذي يقرُّ به. ففي عام 1991، أراد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بعد حرب الخليج أن يعقد مؤتمراً للسلام في مدريد للشروع في أول مفاوضات سلام مباشرة بين إسرائيل والدول العربية. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير يعلم أن أي اتفاق سلام سيكلف إسرائيل تنازلاً عن بعض الأراضي المحتلة، ولذلك رفض المشاركة.
ورداً على ذلك، لم يتردد بوش الأب في التصريح بأن رفض التفاوض ليس خياراً متاحاً لإسرائيل. وطلب من الكونغرس تأجيل الموافقة على قرض بقيمة 400 مليون دولار كانت إسرائيل تنوي استخدامه في إسكان ملايين المهاجرين الوافدين حديثاً من الاتحاد السوفيتي بعد انهياره. وما إن وجد شامير أن الإنذار حقيقي، حتى رجع عن رفضه في غضون دقائق، ومن ثم جلست إسرائيل للتفاوض لأول مرة مع رؤساء ووزراء خارجية الأردن وسوريا ولبنان، وممثلي فلسطين كذلك.
ولعل أفضل وسيلة متاحة للرئيس الأمريكي الآن إذا أراد أن يفوز بالانتخابات، أن يعدل فوراً عن مسلكه الأعمى في تأييد إسرائيل، فهو كمن يطلق النار على قدميه إذا أصر على دعم هذه الحكومة الإسرائيلية التي أمسى المجتمع الدولي يراها حكومة إرهابية.
والحال كذلك، فإن السؤال البارز الآن، ما الذي ينتظره بايدن ليعقد لقاء يجمع فيه كل وسائل الترهيب والترغيب التي يملكها على إسرائيل، ويرغمها على الوقف الفوري لإطلاق النار، والسعي لتأمين سبيل للسلام في المستقبل؟
هل يمكن حقاً تدمير حماس؟
لقد أصرت إسرائيل بلا هوادة على تفكيك سلطة السلطة الفلسطينية وتقويضها، وأرادت بذلك عرقلة مسار "حل الدولتين"، والزعم بأن الجانب الفلسطيني ليس لديه ممثل مناسب للشراكة في السلام.
وفي سياق مرتبط بالرد على التعنت الإسرائيلي، تأسست حركة المقاومة حماس عام 1987 بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وتغلغلت الحركة في المجتمع والسياسة الفلسطينية وكسبت حاضنتها الشعبية. ومن ثم، فقد صار القضاء الكامل على حماس أمراً متعذراً من الناحية الواقعية. بل إن استطلاعات الرأي التي جرت خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة على الفلسطينيين في غزة، ذهبت إلى أن شعبية حماس زادت، خاصة في أعقاب الأحداث الأخيرة، وهو ما يشير إلى أن الحركة لا تزال تتمتع بنفوذ وتأييد كبيرين داخل المجتمع الفلسطيني بوصفها قوة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
والحقيقة أن مشاركة حماس المحتملة في السلطة الفلسطينية "بعد تنشيطها" أمر متوقع حدوثه إذا تولى الزعيم الوطني مروان البرغوثي، الذي تعتقله إسرائيل منذ عام 2002، دوراً قيادياً في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. ويقتضي ذلك حينئذ الاعتراف الفوري من الولايات المتحدة وأوروبا بدولة فلسطينية حرة ومستقلة وذات سيادة، والتنفيذ الفعال لما ينطوي عليه هذا الاعتراف من خطوات.
مهما كان المسار الذي ستتخذه الأمور بعد انتهاء الحرب في غزة، فإن علينا بأن نقرَّ بالسياق الواسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يشمل الاحتلال، والتوسع الاستيطاني، وحرمان الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير. علاوة على ذلك، فإن السلام المستدام يقتضي محاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الإنسانية، وقطع سبل الإفلات من العقاب التي توفرها لها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإخضاع تل أبيب للقانون الدولي. وفي الختام، إذا لم تفضِ الحرب الإسرائيلية الحالية على الفلسطينيين إلى قيام دولة فلسطين حرة ومستقلة وذات سيادة، فعلينا جميعاً أن نترقب عواقب أسوأ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.