تعقّد الوضع السياسي والأمني في السودان خلال الشهرين الماضيين بسقوط مدينتين كبيرتين؛ هما نيالا وود مدني في أيدي قوات الدعم السريع. وهي قوات قوامها الأساسي من القبائل العربية المنتشرة في إقليم دارفور غربي البلاد، تمددت هذه القوات على مستوى القوة العسكرية وعديد القوات المقاتلة خلال العشر سنوات الماضية حتى صارت جيشاً موازياً للجيش السوداني الذي أنشأها خلال فترة الرئيس السابق عمر البشير لتسانده في حربه على الحركات المتمردة في إقليم دارفور.
السبب وراء التعقيد السياسي والأمني بعد ما يقارب التسعة أشهُر من الحرب هو أن هاتين المدينتين تضمان كثافة سكانية كبيرة وحاميات عسكرية ذات وزن عسكري. وعندما انسحبت قوات الجيش في نيالا بعد ضربات متواصلة من قوات الدعم السريع وحصار لمدة تجاوزت الستة أشهُر، كان تبرير البعض للانسحاب الذي تلاه انسحاب من حاميات في مدن أصغر؛ مثل زالنجي والضعين والجنينة، أن هذه المدن هي حواضن طبيعية لسكان القبائل العربية التي ينتمي لها مقاتلو الدعم السريع. لكن سقوط مدينة ود مدني التي تقع في وسط السودان وتبعد عن العاصمة الخرطوم مسافة 180 كم فقط في أيدي الدعم السريع، بدون أي مقاومة تذكر، أذهل كثيراً من الغافلين ونبّههم إلى وجود خطأ ما في الجيش.
فذهبت الكثير من التكهنات على وسائل التواصل الاجتماعي لتفسير ما حدث على أنه وجود لخيانة من قائد الفرقة الأولى التي تتمركز في مدينة ود مدني، ليخرج الجيش بعد يوم ببيان يقول فيه إنه تم تعيين قائد جديد للفرقة الأولى، وأنه سيجري تحقيقاً حول أسباب الفشل والانسحاب الغريب للجيش من مدينة استراتيجية وذات ثقل سياسي واقتصادي وسكاني بالنسبة للدولة السودانية. لكن الناظر إلى الوضع المتردي الذي وصل إليه حال الجيش الذي أصبح يُدافع عن حامياته فقط، في ظل تمدد لقوات الدعم السريع في المدن والأرياف السودانية خلال أشهر الحرب الماضية، وانتهاكها لحرمات البيوت ونهبها لممتلكات المواطنين العُزّل واحتلالها لمنازلهم، يدرك حجم الخطيئة التي وقع فيها نظام البشير بتقويته لمليشيات على حساب الجيش النظامي للدولة.
المراقبون يجمعون على أن الجيش شهد تقهقراً كبيراً في قوته البشرية خلال العشر سنوات الماضية. وفي المقابل، تمددت قوات الدعم السريع حتى وصل قوام قواتها المدربة والمسلحة تسليحاً خفيفاً ومتوسطاً إلى 100 ألف مقاتل. كما أصبحت تمتلك طائرات مسيّرة قتالية. والتقهقر في عديد قوات الجيش يوازيه أيضاً تواضع في الموارد المالية المتاحة له، سواء من ناحية مرتبات جنوده وضباطه أو من ناحية التدريب والتسليح. في المقابل، كانت رواتب قوات الدعم السريع ونصيبها من فرص الانتداب للقتال في الخارج، والذي يوفّر لها فرصاً أفضل من ناحيتي الموارد المالية والتدريب العسكري العملي، أفضل بكثير. وهناك عدم مواكبة لتكتيكات حرب المدن وحرب العصابات من الجيش الذي تمرّس على طريقة "المتحركات" التي يتقدمها سلاح الطيران، وهي طريقة يجب تحديثها في مواجهة قوة سريعة تعتمد على تشتيت انتباه العدو والضربات السريعة بالسيارات الخفيفة ابتدعها التشاديون في حربهم ضد ليبيا في ثمانينيات القرن الماضي وسميّت بـ "حرب التويوتا".
الوضع السياسي والاجتماعي الذي تلا الحرب ليس بأفضل من الوضع العسكري الذي تحدثنا عنه. فالأفق السياسي تشوبه الغيوم بذهاب وفديْ الجيش والدعم السريع في عدة جولات سريعة إلى جدة وأديس أبابا وجيبوتي وغيرها من عواصم الدول المجاورة، وعودتها بسرعة مريبة تشير إلى أن هناك من يضغط من خلف الكواليس لإفشال أي حل سياسي للأزمة الحالية.
فعلى الصعيد السياسي تسبب أعضاء الحزب الحاكم الذين كانوا يتبعون لحزب المؤتمر الوطني الحاكم قبل سقوط البشير في إشعال الحرب بين الجيش والدعم السريع استباقاً لأي اتفاق يعيد قوى الحرية والتغيير إلى السلطة (ولو جزئياً)، وذلك خوفاً من الملاحقات والسجون والإزاحة من المناصب التي تولّوها بعد انقلاب البرهان – حميدتي. وعلى الجانب الآخر تشير اتهامات كثيرة إلى أبو ظبي بدعمها لقوات الدعم السريع بالأسلحة المتقدمة لدحر الجيش السوداني، على اعتبار أن قوامه من الإسلاميين الذين تلاحقهم في كل مكان في المنطقة وتعتبرهم خصماً استراتيجياً. وقد أشارت تقارير أوردتها صحف غربية كبرى إلى إمدادات منتظمة لقوات الدعم السريع قادمة من أبو ظبي عبر مطارات دول مجاورة للسودان.
الواقع الاجتماعي لا يقلّ قتامة وسوءاً عن الواقع العسكري أو السياسي، فقد نزح ملايين السودانيين من العاصمة الخرطوم ومدن مثل الجنينة (غرب دارفور)، والأبيض والرهد وبارا (شمال كردفان)، وكانت مدينة ود مدني الأخيرة في قائمة المدن التي يفرّ منها أهلها خوفاً من جنود الدعم السريع المعروف عنهم ارتكابهم لجرائم القتل والنهب والاغتصاب بدون أن يطرف لهم جفن. والمثير للمرارة في أمر هذه الحرب العبثية أن خطاب الكراهية العرقية بين مكونات الشعب السودان في الشمال (السياسي، وليس الجغرافي) تصاعد بصورة مخيفة تُنذر بإمكانية وقوع حرب أهلية ومجازر شبيهة بما حدث في رواندا والبوسنة والهرسك.
فبينما تحوّل الخطاب السائد بين مقاتلي الدعم السريع من محاربة الإسلاميين الذي يطلقون عليهم مسميات مثل "الفلول" أو "الكيزان"، إلى خطاب كراهية ضد قبائل شمال السودان (الجغرافي) الذين يُطلق عليهم في غرب السودان مسمى "الجلّابة". ظهر بقوة تيار وسط سكان شمال السودان يدعو إلى فصل دارفور، "التي لم تجلب للسودان سوى الحرب والدمار والحروب القبلية… إلخ". وخطاب الكراهية المتصاعد هذه الأيام يُنذر بتطورات كارثية للوضع الكارثي أصلاً. فالحرب التي بدأت سياسية يتم فيها استخدام العوامل والإثنية والمناطقية بصورة متسارعة يمكن أن تخرج عن سيطرة الأطراف حتى لو تم التوصل لاتفاق سياسي قريباً.
التسجيلات الصوتية والمصوّرة، وغرف النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي، تعجّ بالنقاشات التي تأخذ طابعاً عنصرياً يدعو إلى فصل دارفور وإقامة "دولة البحر والنهر" التي تضم أقاليم وسط وشمال وشرق السودان، بينما يدعو البعض في الطرف الآخر إلى إزالة "دولة 56" التي يسيطر عليها الشماليون، في إشارة إلى الدولة التي قامت في أعقاب استقلال السودان في العام 1956. ويدعو البعض إلى إبادة الشماليين والسيطرة على البلاد. وإذا نظرنا إلى منطق الطرفين بموضوعية سنجد أنه موغل في التبسيط لأسباب الأزمة السودانية، هذا إذا افترضنا حسن النية.
تصاعد الأزمة عسكرياً وسياسياً، وتصاعد خطاب الكراهية، يمكن الرد عليه ببساطة بالتذكير بأن نفس الخطاب مارسته جهات في المركز ضد جهات تمردت على الدولة من قبل في دارفور وجنوب السودان. حيث قامت الحكومة بتخويف المواطنين من خطط فصل دارفور وإقامة "دولة الزغاوة الكبرى"، في إشارة إلى قبيلة الزغاوة الإفريقية التي كانت الأقوى في قتالها للحكومة السودانية في تمرد دارفور الذي انطلق في العام 2003، كما تم استخدامها ضد مواطني جنوب السودان من قبل جناح مؤثر من الإسلاميين أسس حزباً أطلق عليه اسم "منبر السلام العادل" دعا إلى فصل جنوب السودان باعتباره عائقاً أمام تقدم الشمال.
على الجانب الآخر، يمكن الرد على دعاوى إزالة "دولة 56" وسيطرة الإسلاميين بالقول إن القبائل العربية التي تقاتل الجيش الآن وتنهب ممتلكات المواطنين وتتسبب في تهجيرهم وموتهم، هي نفس القبائل التي ساندت البشير في التنكيل بسكان دارفور وجنوب السودان من القبائل الإفريقية. وهي نفس القبائل التي كانت الذراع اليمنى للبشير حتى سقوطه في 2019. ولولا الخلاف حول السلطة بين البرهان وحميدتي لاستمر التحالف والانتهاكات للمدنيين العزل في غرب ووسط السودان حتى اللحظة. وما فضّ اعتصام القيادة العامة والفظائع التي حدثت في مدينة الجنينة قبل أشهُر قليلة إلّا أمثلة على انتهاكات هذه القوات وتحوّلها من النقيض إلى النقيض، حسب المصلحة.
الحقيقة التي يغضّ الكثيرون الطرف عنها هي أن الأزمة في السودان هي أزمة سياسية بامتياز، وحلها يجب أن يكون حلاً سياسياً يعالج جذور الأزمة المتمثلة في افتعال الحروب، وعسكرة الدولة، والحوكمة الرشيدة التي توفّر الخدمات الأساسية للمواطنين في أطراف البلاد كافة، وتعزز إحساس المواطنة في مواجهة إحساس المناطقية والقبلية. كما يجب أن تحلّ مشكلة تحكم الجيش في السياسة وخروج العسكر نهائياً من دائرة الحكم؛ لأن الحرب الحالية كشفت عن كارثية الوضع عندما يكون القرار لدى العسكر. كما يجب الالتفات إلى أن السلاح يجب أن يكون في يد الجيش النظامي فقط، والذي يتبع لسلطة مدنية، وعدم تكرار خطأ إنشاء مليشيات مسلحة تحارب بجانب الجيش.
خلاصة القول إن الحرب العبثية في السودان، والتي بدأت بصراع على السلطة وانتهت بكارثة سياسية واجتماعية وأمنية، يمكن وقفها بقيام العقلاء بدورهم في إيصال صوت ملايين الصامتين المطالبين بالسلام والعدالة ودولة القانون، في مقابل الحرب والانتهاكات والتقسيم إلى دويلات متحاربة فاشلة. وبينما يعلو صوت طبول الحرب وخطاب الكراهية، يجب على العقلاء من السياسيين ورموز المجتمع، والمجتمع الإقليمي والدولي الوقوف مع الشعب السوداني في أزمته التي يتم نسيانها في خضم أزمات؛ مثل الحرب على غزة والتطورات في أوكرانيا وغيرهما، حتى لا يندم المجتمع الدولي بعد فوات الأوان مثلما ندم من قبل في رواندا وغيرها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.