في عالمٍ اعتقدنا أن الأبطال قد غادروه بلا عودة، نجد في غزة اليوم صحفيين يواجهون الموت دون سلاح، يقفون كالأبطال، لا يملكون شيئاً غير الشرف والنبل وإنسانيتهم الاستثنائية، ففي حضرة الموت يُلملمون شتات أنفسهم ليواصلوا كشف وإرسال الحقيقة بكل وضوح، لعالمٍ ربما لا يأبه كثيراً بالحقيقة، يقف هؤلاء الصحفيون كأبطال مجهولين يواجهون حرب العالم عليهم بكل إصرار ومروءة، للتضحية بكل شيء حقيقةً لا مجازاً.
كانت الخسارة المأساوية الأخيرة للصحفي سامر أبو دقة تجسّد إحدى التضحيات التي يقدمها أولئك الأبطال الذين كرَّسوا جهودهم لنقل الحقيقة المأساوية في غزة للعالم. استشهد البطل سامر، استشهد بينما كان ينقل بشجاعة المشاهد المروعة من تحت الأنقاض، وفوقه سماء ملبدة بالصواريخ والمتفجرات، ناقلاً لنا صور القصف المتواصل الذي ابتُليت به غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
استُشهد سامر بعد أن بقي نحو 6 ساعات بعد إصابته ملقىً على الأرض ينزف، ومحاصراً في محيط مدرسة، حيث لم تتمكن سيارة الإسعاف من الوصول إليه إثر إصابته بجراح جراء شظايا صاروخ أطلقته طائرة استطلاع إسرائيلية. كما أصيب في ذلك الهجوم الزميل وائل الدحدوح خلال التغطية لقصف إسرائيلي على المدرسة، وسط مناشداتٍ لإجلاء الجرحى المحاصرين هناك.
كان سامر، الذي استشهد بشكل مأساوي أثناء تغطيته من الخطوط الأمامية، في قمة براعته الصحفية. وتضاف تضحياته إلى قائمة الصحفيين المستهدفين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة شريرة لإسكات الأصوات التي تروي حجم العدوان الغاشم الحقيقي ضد الشعب الفلسطيني. وليس من الجديد أن يستهدف الاحتلال الإسرائيلي الصحافة والصحفيين في فلسطين، فما زلنا نذكر كيف قتل الاحتلال شيرين أبو عاقلة واقتحم منزلها واعتدى على النعش الذي يحمل جسدها إلى مثواه الأخير. فوفقاً لتقرير لجنة حماية الصحفيين، قتل جنود الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 20 صحفياً في الأعوام الـ22 الأخيرة، ولم يُتهم أحد أو يُحاسب مطلقاً.
واليوم في غزة، تقر اللجنة نفسها أن الأسابيع العشرة الأولى من حرب الاحتلال على غزة هي الحرب الأكثر دموية على الإطلاق بالنسبة للصحفيين، مع تسجيل مقتل أكبر عدد من الصحفيين خلال عام واحد في مكان واحد. وأغلب الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام القتلى جراء العدوان على غزة هم من الفلسطينيين، بواقع 61 صحفياً من أصل 68، ما يؤكد إلى أي مدى يذهب المحتلون لقمع صوت الحقيقة.
إذ يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إعماء العالم عن أعماله الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني. لذلك يصبح الصحفيون أهدافاً لكونهم مازالوا يعملون حراساً للحقيقة، ويقفون بنبلهم بين الظالمين وصرخات غزة الصامتة. إن فقدان شخصيات بطولية مثل سامر أبو دقة يؤكد الحاجة الملحة لتسليط الضوء على الفظائع التي يرتكبها المحتلون بحق الصحفيين.
الاستهداف الحالي لصحفيين أشدّ تصعيداً وتنكيلاً، حيث يستخدم الاحتلال كل الوسائل الممكنة لقتل الحقيقة وإخفائها عن العالم، ليستمروا بكل حرية لتنفيذ أجندتهم لإبادة الشعب الفلسطيني.
سامر مثل كل شهيد في غزة لم يكن مجرد رقم إحصائي في سجلات هذا العدوان. كان إنساناً له قصة وأحلام وطموحات وحياة أطفأها الاحتلال الإسرائيلي فجأة. ولا تُقاس خسائر هذا الصراع بالأرقام فحسب، بل أيضاً بحياة الأفراد المحطمة الذين تجرأوا على توثيق الحقائق القاسية التي تتكشف في غزة.
إن رحيل سامر هو تذكير مؤثر بأن هؤلاء الصحفيين ليسوا ضحايا مجهولي الهوية؛ إنهم أبطال تمت إبادة حياتهم بقسوة. وترسم قائمة الشهداء، ومن بينهم شيرين أبوعاقلة، ورشدي السراج، وحسونة سليم، والإخوة منتصر، ومروان الصواف، وعلا عطا الله، وغيرهم الكثير، صورة قاتمة للهجوم المتواصل على الصحافة. هؤلاء الصحفيون هم الأبطال الحقيقيون للمهنة، واجهوا حرباً لا مثيل لها- حرب على الحقيقة نفسها.
سامر أبو دقة وزملاؤه الذين ارتقوا قدموا لنا كل شيء، قدموا لنا ما لا يمكن لأي شخص آخر أن يقدمه، قدموا لنا الحقيقة مجردة من كل شوائب الزيف. كل صحفي، حياً كان أم شهيداً، هو بطل وشهيد مهنته. الصحافة في غزة هي حرب في حد ذاتها، حرب لا مثيل لها.
إن الصحافة في غزة تتطلب قلباً نبيلاً وشجاعاً وإصراراً لا يتزعزع لممارسة هذه المهنة وسط هذه الظروف القاسية. إن الصحفيين الذين استشهدوا هم أبطال حقيقة لا مجازاً، وربما كلمة "الأبطال" لا تكفي للتعبير عن حجم تضحياتهم.
سيظل اسم سامر أبو دقة خالداً في سجلات الصحافة، رمزاً للصمود والتضحية. وسيظل اسمه يتردد صداه إلى الأبد، ليس في غزة فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. وإن غادر دنيانا فلن يغادر قلوبنا وعقولنا، سامر: شكراً على تفانيك الذي لا يتزعزع، وكونك صوتاً لمن لا صوت له، وعلى التضحية بكل شيء من أجل جلب الحقيقة إلى الواجهة، لن ننسى بطولتك، سيظل اسمك مرادفاً للبطولة إلى الأبد. شكراً سامر على قيامك بواجبك فوق الكمال، حتى في اللحظات الأخيرة من حياتك، أنت بطل بمعنى الكلمة، ولن ننسى بطولتك أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.