كانت جدتي تقطن في حي قريب من قصر القبة، القصر الملكي في عهد الملك فاروق، قبل أن تصبح مصر جمهورية، كانت مملكة، وقبل أن يحوّلوا بيت جدتي العتيق لبناية شاهقة، كانت الجدران أكثر طولاً، والنوافذ تتخطى المتر ونصف المتر. ذات مرة تطلعت إلى نافذة حجرتها الخاصة، فلمحت أن الجزء العلوي من النافذة به جزء صغير مكسور ومطليّ باللون الأزرق الداكن.
وبفضول المتطلع لحكاية من حكايات جدتي سألتها "ما الخبر يا جدة؟ لمَ زجاج النافذة مكسور؟ ولمَ طُلي الجزء العلوي باللون الأزرق الداكن دون باقي النافذة؟".
كانت جدتي -رحمها الله- من أمهر الحكواتية، تقص قصتها بمزيج نادر بين الحكمة والتشويق وخفة الظل، لا تنتهي حكاياتها، ولا تملّ منها أبداً.
تنهدت جدتي تنهيدة خفيفة، ثم قالت: "أيام نكسة 67، كانوا البُعدا ساعة الغارة يلفوا بالطيارات الهليوكوبتر حوالين البيوت، لو لقوا أي ضوء أو حركة، يضربوا النار على طول…".
حدّقت بوجهها مشدوهة قبل أن أتأكد من أنهم كانوا يطلقون رصاصهم على المواطنين المصريين العُزل، فتؤكد جدتي أنهم كانوا يفعلون، ليس من الصعب التصديق على رواية جدتي، فقد تربينا على متابعة عشرات المسلسلات والأفلام تقص علينا حكايات الماضي الدامي، حينما قررت قوات الاعتداء الإسرائيلية الغاشمة الهجوم على مدرسة بحر البقر وقصف الأبرياء من الأطفال في وقت خروجهم من المدرسة، نفس الأشلاء، نفس الدناءة والخسة، نفس القهر.. التاريخ يعيد نفسه.
هذا عهدنا بهم، نحن لسنا مؤرخين مخضرمين ولسنا نحن ساسة محنكين، يصدقنا جمهور البلهاء ممن نلوك لهم الكلمات الجوفاء ونتلاعب بالألفاظ الأنيقة كي نبدو مثقفين، نحن تربينا على أن هناك من لا يتوانى لحظة في خطف قرة عينيك قبل أن يتحرك جفنك، لا حتى قبل أن تُدير كتفك، نحن نعلم الحقيقة، ونصدّق ما نسمع حتى لو لم نتحرَّ خبراً، نحن نعرف قبلاً.
في رواية 1919، إحدى الروايات المعاصرة للكاتب أحمد مراد، جسّد كيف كان يتعايش أولاد العم سام مع المصريين في سلام، يتشاركون السكن والجوار نهاراً، حتى إذا جنً الليل، وسمعوا أبواق الغارة العسكرية، كانت تتصاعد أفراد منهم فوق أسطح البيوت وفي أيديهم مرايا، وانعكاس المرايا كان شارتهم، يبلغون حلفائهم بأماكنهم.
ما يحدث في غزة هذه الأيام، يجدد الذكرى، ويحيي أنين الألم، نحن نرى إخواننا في غزة ممزقين كل ممزق، أطفال يرتعدون وقد خرجوا من بين الركام والحطام، فزع وهلع، دموع ودماء لا تنتهي.
في ذاكرتي، لن أنسى تلك الممرضة البسيطة، وقفت بهامتها المتهالكة من فرط التعب بين المرضى المتناثرين على ساحة أرض المشفى لنقص المعدات والأسِرّة، ثم مرّوا من أمامها بجثة يحملونها مهرولين للخارج، تلتف المسكينة لتجدها ابنتها وتصرخ بكل ما أُوتيت من ألم "بنتي.. بنتي!".
والله لم أر في حياتي شيئاً يضاهي هذا الكم من الألم والحزن والموت.
في أوقات كثيرة، يلجمنا الألم من حجم المصيبة، تذوب الكلمات حياءً من هول الموقف، ما عساك أن تقول لأحدهم وقد فقد أسرته، بيته، وماله وعياله، ومعهم روحه؟
لمن يحسدون صمودهم، اتق الله، أولديهم خيار آخر؟
ولمن ينظرون لحالهم ويحمدون الله على العافية، تأدبوا، الدنيا ليست دار عافية، العافية في الدنيا لأهل الدنيا.
هناك الكثير من المصادر الوثائقية المجمّعة لو تابعتها فستشعر بحنق مكتوم وهائل، ليس إلا من شدة الظلم، ما هذا الافتراء، ما كل هذا القدر من القسوة والبشاعة؟
ما يجذب انتباهك ويثير حيرتك أنه من دعا لفكرة بناء الدولة الصهيونية لم يكن يهودياً ملتزماً باليهودية، هو فقط روّجها للغرب من الدول الاستعمارية أصحاب المصالح، ووجدت فكرته قبولاً لحل أزمة اليهود في أوروبا بعد اضطهادهم.
ما يثير غيظك هو أن الفلسطينيين أنفسهم هم من يدفعون ثمن نازية الألمان من دمائهم وأرضهم وهويتهم، ليست أمريكا الداعم الأكبر لهذا الخراب المستعجل، وليست ببغاوات أوروبا، وليس ترودو الكندي الذي أبهرتنا سماحته المعوجة مع اللاجئين السوريين والجاليات المسلمة في الماضي. ثبت اعوجاج مبادئهم وزيف سماحتهم في أول محطة.
وبالمناسبة، كراهية الأعداء متوقعة ومعتادة، ومهما زادت شراسة العدو ودناءته، فهي مفهومة ومبرَّرة، الدافع الحقد وتنافر المصالح، لكن ماذا عن تخلي الجيران والحلفاء عنك؟
لو عدنا أكثر من 70 عاماً، وتحديداً في عام النكبة، سنجد بالحقائق أن حرب 1948 كانت حرب الأسلحة الفاسدة، ابتاعها الحكام الفسدة الطامعون للدفاع عن فلسطين الجريحة، كانت الأسلحة تخطئ الهدف فتقتل جنودهم هم، وليس جنود الاحتلال… خيانتهم لمحكوميهم كانت عاراً فوق عار!
ربما شعور المرء بالدونية وعدم الاستحقاق يدفعه للدناءة حتى لو كان حاكماً في موقع قوة، وهذا ما أكده ضمنياً الرئيس السابق محمد نجيب في مذكراته في كتابه "كنت رئيساً لمصر"، حين روى عن شعوره بالخزي والمرارة لأنه تسبب في عزل الملك وانقلاب مملوكيه عليه، في حين أنه حكم من بعد الملك شهرين فقط ليسلّم حكمه، رغم أنفه، لعصابة الضباط الأحرار، والذين كانوا في رأيه ثلة من الأوغاد، سرقوا ونهبوا وحكموا، ثم خرجوا للناس يتشدقون بالفضيلة والورع، بينما هم عذّبوا الفضيلة وضربوا الورع في مقتل في حقيقة الأمر.
وذكر محمد نجيب أن زعيم الضباط الأحرار وقتها كان مزدوج الهوية، له اسمان مختلفان ونشاطان مختلفان بين مجموعتين لهما نشاط سياسي ساعد في عزل الملك.
عاش محمد نجيب سجين بيته حتى مات؛ لأنه كان تحت الإقامة الجبرية، وقُتل اثنان من أولاده في حوادث ملفقة، أما عن ابنه الثالث فأخفى هويته وعاش يعمل سائق سيارة أجرة لينجو.
من المضحك المبكي، أن الدولة الغاشمة كانت بارعة في تجنيد الجواسيس وزرعهم ببراعة متقنة في حكومات الدول المعادية، فيصير المجندون في مواقع قوة ويخدمون مصالح إسرائيل دون الترميز إليهم، أو حتى اكتشافهم مثل الجاسوس إيلي كوهين، الذي صار وزيراً للدفاع السوري وهو في حقيقة الأمر يعمل لصالح الموساد.
عندما تقرأ أنه قُتل بتهمة الخيانة، تشعر أن في الماضي كانت الخيانة مكروهة ومعاقَب عليها، وما زال الناس يرونها خيانة ويزدرون مرتكبها، أما الآن فنحن نعيش سنوات خداعات، نكافئ فيها الخونة على خيانتهم، وتعطي الدول العظمى مدداً وزاداً لقتلة الأطفال ولصوص الأراضين كي يدافعوا عن أنفسهم، بينما تُسد الأبواب أمام أعين الجائع المكلوم، ويُمنع الحديث عن الظلم، وتُكمم الأفواه، وتُقطع الأرزاق، ويُمنع النشر والبث عن الحقيقة، حتى صرنا نتنفس الكذب ونستنشق الضلال، وأصبح هذا عادياً رغماً عنا… لله الأمر من قبل ومن بعد..
ما زالت الجماهير تخرج للتظاهر، وما زال علم فلسطين الجريحة يرفرف في مشارق الأرض ومغاربها، وما زلنا نرسل خطابات ونقاطع وندعو لهم، ألا إن نصر الله قريب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.