جاءت البروفيسور لندا هيل من هارفارد إلى الكويت، وأردتُ أن أذهب إلى هناك إلا أننا كنا بالليل، وهذا فيه مشقة بعد يوم عمل طويل، وأيضاً ستخسر فترة مداعبة أولادك، ولكن هارفارد فرصة تعلم لا تتكرر كثيراً، وبالتالي لا بد أن يؤتى إليها، فذهبت وكعادتي كتبت ملاحظات للاستفادة والإفادة من خلال مدونتي، باقتباس تعليق أو جملة مفيدة أو التعرف على مصدر معلومة جديد، لكني وجدت محاضرة لها على موقع تيد TED شبيهة جداً بما قدمته لنا، تيقنت حينها كم أننا حقاً محظوظون مقارنة بمن سبقونا من أجيال، وخصوصاً في الدول النامية؛ حيث توافر المعلومة صعب بسبب وجودها في أماكن منتجيها البعيدين عن دولنا، بالإضافة إلى تكلفتها المرتفعة نسبياً في حالة الكتب أو أسعار أقساط البرامج الدراسية الخيالية، وخصوصاً في الجامعات المميزة.
لقد تغير الحال، فنحن نشهد وفرةً كبيرةً من المعلومات التي يمكن الاستفادة منها دون تعب أو سفر، خصوصاً مع توافر الكثير من المصادر المتاحة بتكلفة بسيطة، أو أحياناً بالمجان من خلال الإنترنت، سواء المحتويات القصيرة والمتنوعة، مثل محاضرات تيد TED الشهيرة التي يأتيك أحد أهم الباحثين في العالم ويلخص لك زبدة أحد أبحاثه دون مقابل، أو المقالات القصيرة مثل ما ينشر في هارفارد بيزنس ريفيو HBR وبيزنس إنسايدرو فوربيبس وغيرها.
أما المساقات الطويلة الممنهجة، فهناك باقة من المواقع المميزة مثل Coursera , Edx, Udemy, Khan Academy, MIT Opencourseware فضلاً عن القنوات الموجودة على اليوتيوب لجامعات عريقة، مثل إم آي تي MIT ويال Yale، وهناك أيضاً الكثير من محطات البودكاست Podcast التي تمكنك من الاستماع لكثير من المحاضرات واللقاءات أثناء القيادة، أو في النادي الرياضي.
هذا الزخم الكبير من المحتوى لم يكن موجوداً أو متاحاً عندما كنا في فترة الدراسة (في التسعينات) في جامعة النجاح الوطنية في فلسطين؛ حيث كنا مثلاً نوصي أصدقاءنا وأهلنا بشراء الكتب التي نحتاجها من مكتبة الجامعة الأردنية، وهذا قد يحدث مرة كل سنة، لكن اليوم يمكنك شراء أي كتاب من شركة أمازون بكبسة زر واحدة من خلال خدمة 1-Click Ordering، ويكون الكتاب خلال ثوانٍ محملاً على مكتبتك الإلكترونية وهي أمازون كندل، بل متوافراً أيضاً على كافة أجهزتك، إن أحببت.
أصبح العلم يأتي إلينا بسهولة، ولكننا ما زلنا بحاجة إلى أن تظل ثقافة الإمام مالك فينا، فالعلم لا بد أن يُؤتى إليه من خلال الدخول والاشتراك في هذه المواقع واستثمار الوقت في هذه الكنوز الافتراضية، أنا شخصياً تعلمت كثيراً، ولا أبالغ إن قلت إنني تعلمت ذاتياً أكثر مما تعلمته في كثير من المساقات في محطات الدراسة الجامعية، تلك المحطات التي نمر بها، وأحياناً على مضض؛ لنحصل على شهادة بدأ بريقها يهفت بدخولنا في عصر جديد يعتمد على الإبداع والتجديد، ويتسارع فيه التقدم المعرفي بشكل كبير بحيث لا يقدر النظام التعليمي الحالي على مجاراته، بل يحتاج إلى ثورة revolution كاملة لإعادة هيكلته، كما ذكر سير كين روبنسون في تعليقه على أهمية التحول في التعليم إلى منهجية تعتمد على المتعلم في الأساس، وشبّه النظام الحالي للتعليم بنموذج خط إنتاج في مصنع، وقال إن التوجه يجب أن يصبح مثل النظام الزراعي بحيث ينمو الطالب ويتعلم وحدَه بشكل طبيعي organic، وما دور المؤسسة التعليمية (أو حتى البيت كما ذكر) إلا النصح والتوجيه وتوفير البيئة المناسية.
ريادي الأعمال، البليونير المشهور ريتشارد برانسون، مؤسس شركات Virgin، الذي ترك المدرسة وهو في سن 16 سنة أيضاً يتفق مع ذلك الطرح، وكان قد انتقد النظام التعليمي، وطالب بتغيير هيكلي له في أحد تعليقاته، كما ذكرت البيزنس إنسايدر.
ولعل أكبر دليل على موضوع عدم الاعتداد والاعتماد على الشهادة كثيراً القصص الكثيرة لأناس ممييزين، بالإضافة إلى ريتشارد برانسون، حيث لم يكملوا دراستهم الجامعية وانطلقوا وأسسوا أعمالهم الخاصة التي أصبحت فيما بعد تُقدر ببلايين الدولارات، ومن هؤلاء ستيف جوبز (Apple)، وبيل جيتس (Microsoft)، ولورانس اليسون (Oracle)، ومايكل ديلل (Dell)، ومؤخراً مارك زوكربيرغ (Facebook).
إذن يجب أن نسارع ونهيّئ بيئة تشجع على التعلم الذاتي والاستفادة من كل هذه المصادر المتوافرة، ونأخذ بأيدي أبنائنا ونعلمهم حب التعلم وإتقانه؛ حتى يصبحوا طلاب علم جيدين (good learners)، حتى يتمكنوا بسرعة من البدء بالتجربة واكتساب القدرة على توظيف المعرفة، وبالتالي نخلق جيلاً قادراً على مواجهة التحديات ولا ننتظر التعليم الرسمي (main stream) في بلادنا العربية؛ لأننا قد ننتظر طويلاً، وأرجو أن أكون مخطئاً.
أختم بتجربة عجيبة قام بها البروفيسور سوجاتا ميترا من جامعة نيوكاسل؛ حيث قام في عام 1999 بزيارة الهند وترك جهاز كمبيوتر بلا كيبورد في أحد الأحياء الفقيرة؛ حيث الكثير من الأطفال لا يذهبون إلى المدرسة، ولم يروا في حياتهم جهاز كمبيوتر، وكان قد ربطه بجهازه الخاص ليتمكن من مراقبتهم، بعد ساعات بدأ يشاهد حركة على الماوس على الشاشة، ومن ثم بدأ يشاهد الرسام وغيرها من البرامج، أعاد التجربة في مكان نائٍ جداً؛ ليتأكد أن الأطفال لم يتعلموا من أحد المارة، لكنه وصل إلى النتيجة نفسها، بل إن الأطفال علّموا أنفسهم اللغة الإنجليزية حتى يتمكنوا من استخدامه، واللعب بما توافر من برامج على الجهاز، وأترك لكم التفاصيل لتستمتعوا بمشاهدة محاضرة البروفيسور سوجاتا ميترا في مؤتمر تيد TED.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.