77 يوماً مرّت على عملية "طوفان الأقصى"، حيث كشفت هشاشة إسرائيل على كل المستويات العسكرية والأمنية والسيبرانية والتجمع الاستعماري؛ ورغم سقوط آلاف الشهداء والجرحى وتدمير آلة الحرب الإسرائيلية المصنعة غربياً لمئات الأبنية فوق رؤوس ساكنيها في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، استطاع أهالي غزة والضفة الغربية بما فيها القدس، من خلال صمودهم وثباتهم ورفضهم لفكرة الاقتلاع والترحيل، إفشال المخطط الإسرائيلي الرامي إلى دفع الغزيين باتجاه شمال شبه جزيرة سيناء المصرية، وأهالي الضفة إلى الأردن.
مجازر الاحتلال الإسرائيلي
يلحظ المتابع أنه قد مرّ على فلسطين عديد من الاحتلالات عبر التاريخ؛ بيد أن الاحتلال الإسرائيلي ومجازره ضد الشعب الفلسطيني التي نشهد فصولها على مدار الساعة منذ أكتوبر الماضي في قطاع غزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني كانت الأشرس والأكثر همجية وفاشية وتقتيلاً للأطفال والشيوخ والنساء، جنباً إلى جنب مع سياسة تدمير ممنهجة للبيوت على رؤوس ساكنيها. والثابت أن فلسطين بما فيها قطاع غزة صمد أمام رياح احتلالية عاتية في التاريخ، وبصمود أهلها ومقاومتهم رحل المحتلون وبقيت غزة هاشم -كما أسماها العرب- شامخة؛ وتاريخ مدينة غزة كما كل فلسطين، تاريخ مجيد حفظته ووعته الأجيال المتلاحقة؛ وعندما احتل الجيش البريطاني فلسطين في عام 1920 بدأت مرحلة أخرى وبنمط احتلالي خاص، لكنه من نوع آخر، فقد فرض البريطانيون قوانين الطوارئ على أهالي المدن والمناطق الفلسطينية المختلفة، ومن بينهم الغزيون، وتعتبر تلك القوانين أكثر عنصرية في التاريخ المعاصر. وعلى الرغم من الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة في عام 2005 بعد احتلال مديد وبفعل مقاومة وكفاح أهلها، إلا أن الجيش الإسرائيلي جعل منه سجناً كبيراً لأكثر من مليونين ومائتي ألف فلسطيني خلال العام الجاري باتوا عرضة لعملية تقتيل واغتيال وتدمير مبرمجة بين فينة وأخرى.
رغم صغر مساحة قطاع غزة التي لا تتعدى 365 كيلومتراً مربعاً وهشاشة بنيته التحتية، يبقى صمود الغزيين كابوساً مزعجاً للاحتلال الإسرائيلي، حيث لا تكاد تمر فترة دون حملة عسكرية إسرائيلية شرسة عليه تودي بأرواح المئات، وتدمّر بنيته التحتية، ناهيك عن حصار اقتصادي مديد وخانق. لكن في مقابل ذلك وفي متابعة بسيطة لأخبار العدوان الإسرائيلي والمجازر التي ترتكب على مدار الساعة، لم يمنع الجرح العميق رفع الغزيين شارة النصر والتحدي والتشبث بالأرض.
أهمية المكان
أنشئت غزة على تل يرتفع زهاء 45 متراً فوق سطح البحر؛ وقد تطور عمران المدينة أسفل التل من نواحي الشمال، والشرق والجنوب، ولم يمتد باتجاه الغرب جزء من حي الدرج، وجزء من حي الزيتون، وكذلك مواضع التوسع في جهات الشرق والشمال والجنوب من التل: وتضم أحياء الشجاعية والتفاح، وجزءاً من حي الزيتون، وتتميز تلك المواضع بانبساط أرضها التي ترتفع حوالي 35 متراً عن سطح البحر، جنوبي شرق المدينة، إضافة إلى موضع الامتداد نحو الغرب، ويتألف من كثبان رملية غرست الأشجار في بعض أجزائها لصد زحف الرمال، وأصبح اليوم يعرف بغزة الجديدة أو حي الرمال. وبشكل عام توجد في غزة خمسة أحياء رئيسية هي: الدرج، الزيتون، التفاح، والشجاعية بقسميها الجديد والتركماني، وقد امتدت غزة الجديدة على الرمال الممتدة من تل السكن على حدود المدينة القديمة إلى ساحل البحر المتوسط من الغرب.
كانت مدينة غزة قاعدة اللواء الجنوبي في فلسطين إبان الاحتلال البريطاني 1920-1948، وأصبحت عاصمة قطاع غزة منذ النكبة الكبرى في الخامس عشر من مايو/أيار من عام 1948. أقام فيها الحاكم الإداري العام لقطاع غزة خلال الفترة بين عامي 1948 و1967، وقد ضمّت مختلف الدوائر الرسمية. وفي الخامس من يونيو/حزيران من عام 1967 احتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة وأخضعه لحكم السلطات الإسرائيلية، بعد أن بقي القطاع تحت الإدارة المصرية منذ عام 1948 وحتى التاريخ المذكور. وقبل ذلك وفي عام 1948 أنشئت إسرائيل على القسم الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية، ونجا قطاع غزة من الاحتلال ليبقى تحت الإدارة المصرية حتى تاريخ احتلاله في الخامس من يونيو من عام 1967، في حين بقيت الضفة الغربية تحت الإدارة الأردنية.
الأكثرية من لاجئي 48
من الأهمية الإشارة إلى أن قطاع غزة استقبل عدداً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين إثر النكبة الكبرى، ومع التزايد الكبير لسكان القطاع ارتفع مجموعهم ليصل إلى نحو مليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني خلال العام الجاري 2023، منهم أكثر من 76% هم من اللاجئين الذين ينحدرون من بئر السبع ومدينة يافا والمجدل وعسقلان، ويشكل أطفال غزة 53% من سكانه، ومرد ذلك ارتفاع معدلات الخصوبة الكلية للمرأة الغزية وتالياً ارتفاع معدل المواليد السنوي؛ وكنتيجة مباشرة لمعدل النمو الطبيعي المرتفع سيتضاعف سكان القطاع الصامد بعد 20 سنة، أي إن مجموع سكانه سيصل إلى 4 ملايين و600 ألف فلسطيني بحلول عام 2043. لم تكن المجزرة المروعة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي على مدار الساعة في قطاع غزة وبشكل خاص المخيمات الثمانية التي يتركز فيها غالبية اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك في مدن الضفة وقراها والمخيمات القائمة هناك، سوى محاولة يائسة لإخضاع الشعب الفلسطيني وفرض الأمر الواقع وتنفيذ مخطط الترانسفير القديم الجديد باتجاه سيناء المصرية والأردن، لكن الدلائل تشي بقدرة الشعب على الصمود والاستمرار في المقاومة لكسر إرادة العدو وهزيمته في نهاية المطاف، ومع ارتفاع وتيرة المعارك في قطاع غزة وشراسة المقاومة الفلسطينية واعتراف المؤسسة الإسرائيلية بسقوط المئات من الضباط والجنود الإسرائيليين بين قتيل وجريح منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن غزة باتت فيتنام العرب بأنفاقها التي دمرت الاحتلال الإسرائيلي وهزمته، وسيذكر التاريخ ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.