لا حديث اليوم في هذا العالم إلا عن صانع حدث 7 أكتوبر، الذي أنجز مهمته، ثم تكَلَّم مرَّة وسَكت، لكنَّه بعد ذلك ملأ الدنيا بأحداث، عجز الإعلام عن ملاحقتها، وعجز كبار المحللين عن استشراف تبعاتها وتداعياتها.
أمَّا القادة والسَّاسة وأصحاب الفخامة والجلالة، فهم في حالة من التِّيه على مِنصَّة مسرحية بطلها شبح، ولا يتوقفون عن الضجيج، ولا يعرفون من أين تأتيهم الضربة المُوالية.
لم ينطق الرجل بعدها بكلمة، وترك الصور تنطق بألف كلمة، وهو يتأمل في كل الاتجاهات ما خلَّفه هذا الزلزال، ويتتَبَّع آثارَه المرئية والخفية، والهزَّات الارتدادية على كل مفاصل الأمن والاقتصاد والسياسة العالمية.
إن قادة العالم والملوك والأمراء المطبعين يتضورون ألماً. والأرض تهتز من تحت أقدامهم… لقد أصابت كبرياءهم في العمق، وانهارت فزاعتهم الأمنية، وانكشفت حقيقة قُوَّتهم. لقد تركت جُروحاً مُمْتدة، وخسارة عميقة وطويلة الأمَد، وتصدُعات تركت فجَوات عميقة بين الشعوب الغربية وأنظمتها، وهي تُشاهد الحروب الغريبة "للجيل السابع"، التي تواجه الخدج، والأموات في المقابر، والجرحى في المستشفيات.
إنه إجرام الجبناء، و"شرف" القتال عند نتنياهو وبايدن.
إن "محمد الضيف" اليوم يُقدِم لنا درساً صامتاً وحياً بأن الحروب لا تُوزن بميزان القوَّة، وإنما بميزان الرَّدْع، وميزان المصالح، وميزان القيم.
والعدو وحلفاؤه يدفعون الكلفة الأمنية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية كل يوم.
غزَّة تحاصر العالم:
إن غزة اليوم هي التي تحاصرهم، وتقُض مضاجعهم، وتحاصر كلمات الساسة في مؤتمراتهم، لقد أصبح الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي هو الجريمة عند شعوب العالم.
وتُحاصر غزة حركات المُطبِّعين في قصورهم، وقادة العالم في مساكنهم، فلا يستطيعون مواجهة شعوبهم. وتحاصر بارجاتهم وأساطيلهم، في المضايق، فالدفء والطاقة وحركة الحياة مرهونة في جغرافية الأمة. وشعوب الأمة في هذه المنطقة قد تدربت على حمل السلاح، وتعرف اليوم جيداً وِجْهته الصحيحة.
واليوم يسدل الستار على 8 عقود من احتلال العقول وتزييف الحقائق، وتغييب الوعي الجمعي للشعوب، وتعود القضية إلى المربع الأول، وللقراءة الصحيحة، وفق السردية الموثقة والثابتة.
يدخلون في دين الله أفواجاً:
ونتأمل في تأثير جرعة الوعي المركزة، والاستفاقة الكبيرة لدى شعوب العالم بأن الناس في الغرب لا يتوقفون عن التظاهر من أجل وقف الإجرام، وبدأوا يتساءلون عن حقيقة القضية الفلسطينية، وعن سِّرِّ الصبر الأسطوري لهذا الشعب، وعن الإسلام.
ويسألون عن سِّر لجوء فرنسا إلى سَنِّ قوانين جديدة تُجرِّم حَمْل العلم الفلسطيني، والتلَّفُظ باسم حماس. وتحظر المظاهرات، وهو ما أصبح يدخل الشكوك في نفوس الناس، ويأتي بنتائج عكسية.
في فرنسا يصل عدد الذين يدخلون في الإسلام إلى 400 يومياً. يقول أغلبهم:
إن الصَّبر واليقين والطمأنينة التي وجدناها في أهل غزة جعلتنا نتساءل عن السِّر وراء هذا، فوجدناه في الإسلام والقرآن الذي يملأ القلوب، فقرأنا عن الإسلام واقتنعنا بالقرآن وقرَّرْنا الدخول في الإسلام.
تقول فتاة عمرها 18 عاماً: أحْضرْتُ القرآن مُترجَماً، وقلت سأقرأ فيه لأتعرَّف على الإله الذي أنزل هذه السَّكينة على قلوب هؤلاء الناس، وحينما بدأت القراءة لم أُكْمل، ولكني توقفت وبكيت، وانهمرت دموعي بشكل لم يحدث لي من قبل.
وقلت.. هو الإله العظيم الذي أريد أن أعْبُده، وقرَّرْت الدخول في الإسلام.
وتقول أخرى: لقد شاهدت أمّاً فقدت أبناءها الخمسة، وبدلاً من أن تلطم وجهها وتصرخ وتبكي وجدتها صابرة وتقول: لقد سبقوني إلى الجنة، فقلت: هؤلاء ليسوا بشراً، وكيف أصبحوا كذلك؟ فعرفت أن دين الإسلام وراء ذلك اليقين فقررت أن أدخل الإسلام.
لقد صمت "محمد الضيف" من قبل، ولم يأمر بإطلاق صواريخ المقاومة أكثر من عامين، وهو يُعِّدُّ لـ"طوفان الأقصى".
كي يعطي مفهوماً أوْسع لمعنى المقاومة، بأنها منهج وفكرة لا يمكن القضاء عليها، وكي يحسم القضية الفلسطينية، ويُخرجها من "حظيرة التسوية"، إلى الكفاح المسلَّح، وكي يضع المشروع الصهيوني في مواجهة أسئلة وجودية متعلقة بأمنه واستقراره.
الضربة القادمة
وإن سكوته طيلة شهرين من الحرب، وهو يستغرق التأمل في مجرى الأحداث، فإنه ولا شك، يخطط للضربة القادمة، التي ستغير العالم، وستُوقِفُ حركة التاريخ، وتُحْدث توازنات جديدة، وتضع حداً لهيمنة الصهيونية العالمية، واليمين المتطرف، على القوانين والمؤسسات الدولية. في اتجاه حركة حضارية، يجتمع فيها أبناء الأمة وأحرار العالم، من أجل تحرير الشعوب، لإعلاء القيم الإنسانية، وإقامة العدل في هذه الأرض.. "كنتم خير أمة أخرجت للناس".
"صمت السندان"
إنه صمْتٌ كصَمْتِ سِنْدَان الحَدَّاد، الذي يتلقى الضربات تلو الضربات، ولكنه ساكن، قابع، قانع بما يقدم للناس من خير.
"وقارن بين سندان الحدَّاد، وصوت أزعج الأسد في الغابة، فأرسل كليلة ودمنة يَسْتجليان الخبر، فوجداه طبْلاً، يُحَرِّك الرِّيحُ غصْناً فَيَقرَعُه، فشَقّاه بأظافَرِهما، ونام أسدُ الغابة مستريحاً". (كليلة ودمنة)
وهكذا يَشقُّ "أسد الغابة" طبول التسوية، ينقل القضية الفلسطينية من ضرب الطبابيل إلى رمي الأبابيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.