شهدت إسرائيل، للمرة الأولى في تاريخها، هزيمةً خاصةً وشديدةً، فلمعركة "طوفان الأقصى" أهمية تاريخية في هذا الصدد؛ إذ يُعَد السابع من أكتوبر ماثلاً أمامنا باعتباره تاريخاً لا يمكن أن نُلقي به خلف ظهورنا أو أن نتجاهله.
شنَّت إسرائيل بعد السابع من أكتوبر عملية جوية كبرى، واستهدفت قطاع غزة دون تمييز بين ما هو عسكري وما هو مدني، ثُمَّ أتبعت ذلك بعملية برية بدأتها في 30 أكتوبر، مُتقدِّمةً من شمال المدينة. وبوصولها إلى شاطئ البحر من شمال شرق المدينة قسمت إسرائيل عملياً القطاع إلى شطرين. وهي تهدف في نهاية المطاف إلى تقسيم غزة إلى ثلاثة أقسام، من خلال شنّ عملية في جنوب القطاع.
وبنظام الحرب الحالي يتعرض جزء كبير من أهل غزة لمأساة شديدة؛ حيث أصبح الموت والجوع ضيفين دائمين هناك؛ إذ لا تسمح إسرائيل بدخول المساعدات عبر معبر رفح الحدودي، بينما ترتكب بتهور عنيف كل أشكال الانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم الحرب من أجل تهجير سكان غزة.
ووصل الضغط الشعبي المتصاعد حداً تُعبِّر معه حتى الولايات المتحدة عن انزعاجها، ويتراجع "تساهل" القوى الغربية في غضّ الطرف عن المجازر الإسرائيلية يوماً تلو الآخر، كما تنظر كلٌّ من مصر والأردن إلى خطة ترحيل سكان غزة باعتبارها "إعلان حرب". ومن ناحية أخرى يتصاعد الضغط الشعبي على الحكومات الحالية في كلا البلدين.
قوة مهام ضد الحوثيين
في مثل هذه البيئة جرى فتح قضية تحول الحرب إلى حرب إقليمية، وهي القضية التي تصدَّرت النقاش عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، للنقاش مجدداً نتيجة تحركات الحوثيين ضد السفن في البحر الأحمر. وشكَّلت الولايات المتحدة "قوة مهام" جنباً إلى جنب مع بلدان غربية، لكنَّ البلدان الإقليمية مثل الإمارات والسعودية لم تشارك "رسمياً" في هذا التشكيل. وهنالك ادعاءات بأنَّ الإمارات مستعدة لفعل ذلك، لكنَّ السعودية تتعامل مع الأمر بحذر.
يمكن القول إنَّ أساس تحفُّظات السعودية على المشاركة في قوة مهام ضد الحوثيين هي أنَّ جهودها التي بذلتها في الماضي بهذا الصدد لم تكن ناجحة، وكما حقق الحوثيون مكاسب في اليمن فإنَّهم أظهروا قدراتهم العسكرية من خلال استهداف السعودية عدة مرات داخل أراضيها.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّه في ظل استهداف الحوثيين لإسرائيل، قد يُنظَر إلى استهداف بلد مثل السعودية للحوثيين أيضاً باعتباره دعماً فعلياً لأمن إسرائيل. وفي هذا الإطار لا بد أن نضع في الحسبان أنَّ السعودية قد علَّقت عملية التطبيع مع إسرائيل. وفضلاً عن الخطر الأمني قد تتضرَّر أيضاً صورة السعودية على المستوى الشعبي الداخلي وعلى مستوى العالم الإسلامي كثيراً، في الواقع لا يبدو ممكناً أن تكون السعودية مستعدة لذلك، في وقتٍ لا تزال حتى الولايات المتحدة تُقيِّم فيه نطاق وشكل وتأثيرات التدخل ضد الحوثيين.
وإلى جانب كل ذلك، حين نضع في الاعتبار أنَّ المخاطر الأمنية في البحر الأحمر تثير المخاوف بشأن أسواق الطاقة، خصوصاً النفط، يصبح عدم اتخاذ السعودية نهجاً مُتعجِّلاً أمراً مفهوماً أكثر.
التحديات الماثلة أمام مصر
في السياق الحالي، يمكن القول إنَّ مصر هي البلد الأكثر تأثُّراً بتصرفات الحوثيين، ويمكن أن يؤدي ظهور مخاطر كبيرة للأمن في البحر الأحمر بسبب مشروع الطريق التجاري الهندي الجديد الذي يمتد إلى إسرائيل، ومشروع طريق التنمية بين تركيا والعراق إلى زيادة الاستثمارات في طرق بديلة، وربما تقليص المرور الحالي عبر قناة السويس.
وبالإضافة إلى هجمات الحوثيين، تُشكِّل مجازر إسرائيل المستمرة في غزة واستراتيجيتها لنقل سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء مشكلةً هائلة لمصر، ومع أنَّ مصر تُصنِّف هذا باعتباره سبباً للحرب، فإنَّ هذا الأمر محل نقاش كبير في ظل السياق الحالي. ففي ظل تضرر جزء كبير من البنية التحتية في غزة يبدو تحقيق مستويات المعيشة الإنسانية مرة أخرى في غزة صعباً للغاية.
وحتى في حال التوصل إلى اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار قد تُواصل إسرائيل معارضة إعادة إعمار غزة والإبقاء على الحصار الحالي، ومع أنَّ المعابر الحدودية مغلقة، من الواضح أنَّ مصر تبقى هي نقطة الخروج الوحيدة لشعب غزة على المديين المتوسط والطويل، بالتالي تنتظر مصر فترة صعبة.
مشكلات الأردن
كما هو الحال مع مصر، قد يواجه الأردن تهديداً قريباً مما تواجهه القاهرة، لكن ليس بنفس الحدة، فإذا ما تعرَّض سكان غزة للتهجير القسري يمكن أن نتوقَّع إمكانية تحرُّك إسرائيل في نهاية المطاف صوب جبهة الضفة الغربية؛ ولهذا ربما يواجه الأردن مشكلةَ لجوء جديدة، مثلما هو الحال مع مصر.
علاوة على ذلك، تؤثر الحرب الدائرة في المنطقة على الأردن، كما هو الحال مع مصر، فيما يتعلَّق بقطاع السياحة، وقد أكَّدت التقارير الإعلامية إلغاء حجوزات وتعرّض القطاع السياحي لأضرار كبيرة.
من ناحية أخرى، يخوض الأردن عملياً "حرباً" مع مُهرِّبي المخدرات على الحدود السورية، وعلى الرغم من عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية وإجراء محادثات للتطبيع من خلال لجنة الاتصال العربية، يواصل النظام إنتاج وتجارة المخدرات، الأمر الذي يفرض تحدياً لكلٍّ من مصر والأردن.
وفي هذا الإطار، من المعروف أنَّ النظام ليس وحيداً في هذا المجال، بل هنالك أيضاً تشكيلات الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران؛ ولهذا السبب فإنَّ مجرد تفاوض الأردن مع النظام فقط لن يحل المشكلة، لأنَّ النظام يفتقر إلى القدرة على تلبية التوقعات بخصوص عودة اللاجئين وأمن الحدود وتهريب المخدرات، بل قد أُعلِنَ على مستوى وزير الخارجية أنَّ الأردن قد يبحث شنَّ عمل عسكري للتعامل مع المشكلة.
ومن المتوقع أن يعمل الأردن عن كثب مع تركيا بشأن هذه المسألة مستقبلاً، فرغم عملية التطبيع التركية المستمرة مع النظام، تساور أنقرة شكوك عميقة حيال استعداد النظام ونواياه. ويمكن لقدرات تركيا التكنولوجية في مجال الطائرات المسيّرة على وجه الخصوص أن تنقل الأردن إلى مستوى مختلف في مسألتَي أمن الحدود والمعركة ضد تهريب المخدرات، وقد أظهرت "عملية درع الربيع" قدرة تركيا على تقييد النظام، من خلال قدراتها في مجال الطائرات المسيرة.
هل من الممكن وقف إيران؟
يبدو مرجحاً أن تعود العناصر الوكيلة لإيران في العراق وسوريا وإيران إلى الواجهة مجدداً عقب حرب غزة، لكن يمكن القول إنَّ الخيارات المتاحة أمام التحالف الأمريكي– الإسرائيلي والبلدان الإقليمية، من أجل إضعاف أو تحجيم إيران في هذه البلدان، محدودة للغاية.
وعند النظر خصوصاً إلى كلٍّ من قدرة إيران الكبيرة على توجيه الضربات، والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من العراق، يتضح أنَّ تلك الفرص محدودة للغاية. وقد تحتاج الولايات المتحدة على وجه الخصوص إلى تحويل تركيزها من الصين إلى المنطقة. ورغم أنَّه من الممكن إحراز تقدم من خلال استخدام عناصر وكيلة، فإنَّه لا توجد عناصر وكيلة خارج سوريا يمكنها الانخراط بصورة مباشرة في صراع مباشر مع إيران، علاوة على ذلك عبَّر حزب العمال الكردستاني (وحدات حماية الشعب الكردية)، علناً، من خلال مظلوم عبدي، أنَّه لا يرغب في أن يكون طرفاً في حرب مع إيران.
وفي ضوء كل هذه القضايا كشفت محاولة إسرائيل لاحتلال غزة التهديدات التي تعترض البلدان الإقليمية، وقدرات هذه البلدان الحالية، والصعوبات التي تواجهها في حل المشكلات. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّها كشفت أيضاً مدى الخطر الذي يُشكِّله دعم الولايات المتحدة والغرب لإسرائيل، وتحوُّل بلدان الجوار عملياً إلى وكلاء لإيران.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.