تدلّ الأخبار المتعلقة بالمدارس الإصلاحية، وخصوصاً مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، أنها لعبت دوراً رئيساً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية، وتدل الإشارات والشواهد التاريخية على أن الطلاب الشاميين كانوا يشكلون مجموعة كبيرة بين الطلاب الذين يفِدون من خارج العراق للدراسة في مدرسة الشيخ عبد القادر، كذلك كانت الشام منطقة جذب لرجالات الدين والمتحمسين لنصرة الإسلام وجهاد الأعداء، وتبدو المظاهر الإصلاحية كما تبدو مظاهر التعاون بين مدارس الإصلاح والدولة الزنكية في الآتي:
1- الإسهام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي:
قامت المدرسة القادرية بدور مهم في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فكانت تستقدمهم وتوفر لهم الإقامة والتعليم، ثم تعيدهم إلى مناطق الثغور والمرابطة. ولقد كان هؤلاء الطلاب يُعرفون باسم "المقادسة"، نسبةً إلى مدينة القدس، أو بيت المقدس، وكان من بين هؤلاء الطلاب من اشتُهر فيما بعد في ميدان الفقه والسياسة، ويمكن القول إن إرسال هذه البعوث الطلابية إلى بغداد كان سبَبَه أمران:
الأول: حاجة الدولة الزنكية إلى نمطٍ معين من القيادات والموظفين والإداريين.
والثاني: ما اشتهرت به مدرسة عبد القادر آنذاك من تجسيد لسياسات الإصلاح، ولا بدَّ أن إقرار إرسال هذه البعوث نتج عن دراسة ومشورة، فقد توثقت الصلات بين الشيخ عبد القادر ونور الدين الزنكي، فكان نور الدين يرسل أبناء المقادسة النازحين من القدس إلى بغداد ليدرسوا في مدرسة الشيخ عبد القادر، ثم يعودون إلى مناطق الثغور قادةً ودعاةً ومرشدين، كما كان نور الدين يستقدم مشاهير العلماء، الذين تخرّجوا في المدرسة القادرية.
وكانت المدرسة القادرية والقيادة الزنكية تُعِدان أبناء النازحين لقيادة حركة الجهاد، بدل أن تأتي عليهم حياة التشرد والضياع، أو أن يجدوا طريقهم إلى المدارس العادية التي كانت تُعِدُّ الطلاب للوظائف والمصالح الشخصية. ويذكر سبط ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان" أن والد موفق الدين بن قدامة، حين نزح من بلاده إلى دمشق كان يقوم بنشاط دائب لحشد الطاقات في مواجهة الاحتلال الصليبي، وأن داره في دمشق كانت ملتقى القيادات الفكرية والسياسية، وأن نور الدين زنكي نفسه كان يداوم على حضور هذه اللقاءات.
2ـ هجرة العلماء والعمل في المدارس النورية:
تَدَاعى العلماء وخريجو المدارس الإصلاحية من كل قطر، للعمل في المدارس التي أنشأها نور الدين وصلاح الدين. ومن ذلك ما قام به خريجو المدرسة القادرية، حيث كان على رأس المهاجرين إلى هناك موسى بن الشيخ عبد القادر، الذي قدم إلى دمشق واشتغل بالتدريس حتى وفاته عام 618هـ/1221م. كذلك بنى نور الدين مدرسة في حران، وسلَّمها إلى أسعد بن المنجا بن بركات، المتوفي (606هـ/1209م)، والذي درس على الشيخ عبد القادر ثم عاد إلى الشام، كذلك أسند نور الدين إليه التدريس في المدرسة المسمارية، وأسند إليه القضاء، ولقد استمرت ذريته تتناوب التدريس في مدرسته فيما بعد، كذلك بنى نور الدين مدرسةً أخرى في حرّان، سلَّمها إلى حامد بن محمود (المتوفى عام 570هـ/1174م) الذي لازم الشيخ عبد القادر ودرس عليه، وكان نور الدين يقبل عليه، وله فيه حسن ظن.
3 ـ المشاركة في الجيش والجهاد العسكري:
أبرز المدارس التي رفدت هذا الميدان هي المدرسة العدوية وفروعها، التي أسسها الشيخ عدي بن مسافر في جبال هكار، فقد شكَّل خريجو هذه المدارس من الأكراد الهكارية والروادية جمهرة أمراء الجيش وقادة الفتح وجنوده، ويأتي على رأس هذه الجماعات أسرة صلاح الدين الأيوبي، وهي من الأكراد الرواديّة، وأصلهم من بلدة "دوين" من أعمال أذربيجان والرواديّة قبيلة كبيرة.
ولقد وُلد أيوب والد صلاح الدين في البلدة المذكورة، ومنها خرج والده شاذي مع ولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه إلى بغداد، ومن هناك نزلوا تكريت حيث مات الوالد شاذي، وولد الحفيد صلاح الدين، ثم لم يلبث الأخوان أن رحلا والتحقا بخدمة عماد الدين زنكي، وأما الأكراد الهكاريّة فقد شكّلوا فيما بعد أمراء جيش صلاح الدين وقادته، ومن أشهرهم الأمير سيف الدين المشطوب الهكاري، الذي لم يكن في أمراء الدولة أحدٌ يضاهيه في المنزلة، وكانوا يسمونه الأمير الكبير، تُوفي في القدس عام 588هـ، وقد وصـف القاضي الفاضل موته بأنه: تهدَّم به بنيان قوم والدهر قاض ما عليه لوم.
4 ـ المشاركة في ميادين السياسة:
اشتغل نفرٌ من تلاميذ المدرسة القادرية مع نور الدين، ثم صلاح الدين في السياسية، ولعب بعضهم أدواراً في غاية الخطورة، ومن الأمثلة على ذلك أسعد بن المنجا بن بركات، فقد أشار ابن رجب إلى أنه بالإضافة إلى عمله في التدريس والقضاء كان له اتصال بالملوك وخدمة السلاطين. وكذلك علي بن برداون بن زيد الكندي، الذي حظي بمكانة عند السلطان نور الدين، ويشابههما حامد بن محمود الحراني، الذي صحب عبد القادر ودرس عليه، وعندما انتهى من الدراسة ذهب إلى دمشق، حيث اتصل بنور الدين فولّاه التدريس والقضاء والمظالم في حرّان، ويَذكر ابن رجب أنه رحل إلى بغداد ونزل بمدرسة الشيخ عبد القادر، وجاء إلى دمشق في حوائج إلى نور الدين، وكذلك زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الأنصاري الدمشقي، الذي وصَف لقاءه بالشيخ عبد القادر فقال: فاشتغلت عليه بالعلم، ففتح الله عز وجل عليّ في سنةٍ بما لم يفتح على غيري في عشرين سنة. ولقد قُدِّر لابن نجا هذا أن يكون من رجال صلاح الدين ومستشاريه، وقد أرسله الشيخ عبد القادر الجيلاني للشيخ عثمان بن مرزوق القرشي، قائد المعارضة السنية بمصر وشيخ المدرسة الإصلاحية في مصر، وقد قام ابن نجا بدور خطير ومهم في زحف جيش نور الدين إلى مصر، انتهى بفتحها وتوحيدها مع الشام، فلو تتبعنا مسيرة ابن نجا هذا بعد أن استأذن عبد القادر بالرحيل إلى مصر لوجدناه يتوجه إلى دمشق، ويستقر بها مدة ليست قصيرة، حيث اشتغل بالوعظ والتدريس، ثم وفد إلى بغداد عام 564هـ/1168م رسولاً لنور الدين، حيث خلع عليه الخليفة، وبعد ذلك مباشرة يدخل مصر ويتصل بالخلافة الفاطمية، وينال الحظوة عند حكّام الدولة الفاطمية.
ويذكر ابن رجب أن ابن نجا الواعظ زار الشيخ عثمان بن مرزوق القرشي المتحمس لعبد القادر، وسأله عن إمكانية قدوم أسد الدين شيركوه إلى مصر. فكان جواب الشيخ هو المشورة بالانتظار مدة، وكل محاولة سريعة لا بد أن تفشل فجرى الأمر كما ذكر.
وكان الشيخ عثمان يرى أن يسبق غزو شيركوه لمصر مزيد من تهيئة الأجواء العامة، لاستقباله بما يشيعه زعماء التصوف السني والوعاظ عن الخير الذي سيصحب قدومه، وأما عن خطوة ابن نجا في بلاط الفاطميين فكانت من ضمن الخطة التي استهدفت اختراق البلاط الفاطمي، لمعرفة مواطن الضعف والقوة عندهم، ودعم التعبئة الفكرية، التي كان يقودها أمثال الشيخ عثمان بن مرزوق، لأنَّ ابن نجا قام بالدور الاستطلاعي نفسه في مناسبة تالية، وتبدو أهمية الدور الذي لعبه زين الدين بن نجا في كشفه مؤامرةَ الفاطميين ضد صلاح الدين عام 569هـ /1173م.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.