لا تزال آلة القتل الإسرائيلية مستمرة بذبح الشعب الفلسطيني بدون أن تفرق بين أطفالٍ ونساء وشيوخ، ولكن بعد هذا الدمار الممنهج، ندرك أن طبيعة الهجوم الهمجي لم يكن، منذ اللحظات الأولى، ردة فعل أو انتقاماً على ما حصل في 7 أكتوبر، ولكنه أبعد من ذلك بكثير. لقد قام العقل الصهيوني في معركته هذه على مفهوم كسر الإرادة والأمل في العقل الفلسطيني، لا تريد إسرائيل، كما تزعم، تدمير حماس، إنما تريد أن تزيل كلمة مقاومة ومفهومها الأيديولوجي من الوجدان الفلسطيني ومن هويته، فهي تسعى إلى هزيمتهم روحياً ومعنوياً، ومفهوم الهزيمة الذي تسعى إليه الدولة الإسرائيلية، من خلال أدواتها، العسكرية والإعلامية والدبلوماسية التي هي ترجمة للأفعال الوحشية التي تحصل اليوم، ولكن للأسف فقد التقت المصلحة الإسرائيلية لهزيمة حماس، كلياً، كما يدّعون، مع مصلحة بعض الدول العربية التي تُعتبر ضمن الأدبيات السياسية الدولة العميقة للمنظومة العربية التقليدية، ولكن لماذا لا يريد أحد انتصار غزة؟
إن فوز غزة في هذه المعركة لا يُقاس بالانتصار العسكري؛ لأنها مقارنة غير منطقية وجائرة في الميزان العسكري ومنطقه وفي التفوق العددي والتطور التكنولوجي الذي تمتلكه إسرائيل، رغم ذلك فلقد استطاعت المقاومة بإمكانياتها البسيطة أن تكسر هيبة الجيش الذي لا يُقهر، وحوّلت فخر الصناعة الإسرائيلية ميركافا إلى خردة مدمرة.
ولكن الانتصار له أوجه عدّة، فهي معركة حضارية وليست عسكرية فحسب، وهذا الفوز سوف يكون له تداعيات مستقبلية في الخريطة السياسية في المنطقة، ولكن قبل الخوص في تشريح الأسباب، فالمقاومة انتصرت، منذ اللحظات الأولى لعملية طوفان الأقصى، ولم تستطع أي دولة عربية، منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، أن تحقق ما حققته المقاومة في بضع ساعاتٍ وبإمكانياتٍ صغيرة ومحدودة مقارنة بالإمكانيات التي كانت تمتلكها الدول العربية، آنذاك، أو إسرائيل اليوم. لقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية أسطولها الضخم إلى سواحل فلسطين المحتلة، مما يؤكد حجم الكارثة التي مُنيت بها إسرائيل، ما حصل هو بمثابة خطر وجودي وكل التحليلات الغربية والعربية تؤكد حجم المصيبة التي حصلت ليس على الجيش الإسرائيلي؛ فحسب، إنما على وجود الدولة العبرية.
لقد عرّت هذه الحرب المنظومة الأخلاقية والقيمية للعالم الغربي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتضررت سمعتها، بشكلٍ لا يوصف، فلقد فشلت الآلة الإعلامية الغربية في الدفاع عما تقوم به إسرائيل، أما بالنسبة إلى المنظومة العربية، فلقد وقفت، مرة أخرى، صامتة إزاء ما يحصل في غزة، فلم تحرك ساكناً، أقصى ما فعلته هو بعض الاعتراضات والتصريحات المعارضة لحفظ ماء الوجه، وأرسلت المساعدات الغذائية التي تقف في الصحراء ولا تستطيع أن تدخل إلى قطاع غزة بدون الموافقة الإسرائيلية.
لا يغرّنّ أحدٌ التصريحات العربية والأمريكية الرافضة لتهجير الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم، ولكن الأفعال تعكس الأقوال، فكل العمليات العسكرية والأفعال الإجرامية والأسلحة التي تُستخدم والقنابل الغبية التي ألقيت على غزة تدل على أن المخطط هو التهجير ولا شيء غير التهجير. إلا أن المخطط فشل والشعب الفلسطيني هو من أفشل تلك المساعي؛ لأنه رفض أن يترك أرضه ويُخلي بيته، وأن يسلم قضيته رغم كل المآسي التي يعانيها ويعيشها كل يوم.
من المنطقي والطبيعي أن نفهم الموقف الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي ترسل المساعدات غير المشروطة وغير المحدودة، بالإضافة إلى الحركة الدبلوماسية النشطة التي تمنع أي محاولة للضغط على الجنون الإسرائيلي، كل تلك المواقف هي منطقية استناداً إلى التاريخ الطويل للعلاقة الأميركية مع إسرائيل وارتباط المصلحة الأمريكية بالمنطق الإسرائيلي، ولكن قد يتساءل البعض: لماذا بعض الدول العربية لا تريد فوز غزة أيضاً في الحرب؟ في المنطق السياسي الضيق والبراغماتي والسياسة الواقعية المجردة من الأخلاق، من الطبيعي أيضاً أن نفهم موقف تلك الدول من الحرب.
كسر العقل العربي التقليدي
إن انتصار غزة بعقل المنظومة العربية التقليدية ليس انتصار الشعب الفلسطيني، إنما انتصار مشروع المقاومة وانتصار الفكر الذي يرفض الاحتلال، فهو بداية لتكوين عقل عربي جديد، وهذا المنطق يتعارض مع طبيعة تلك الأنظمة التي نشأت على الجمود والتقليد وتقديس الزعامات، فانتصار المقاومة يعني انتصار المنظومة الإيمانية والروحانية التي يتمتع بها المقاومون، وهذا النموذج لن يكون حبيس فلسطين وغزة بالذات، وإنما سوف يشجع مفهوم الحرية والتحرر والمقاومة على أن يتسلل إلى الشباب العربي الذي شاهد عجز حكوماته ودوله أمام المنطق الأمريكي وآلة القتل الغربية والإسرائيلية. وهذا ما لا يناسب المنظومة العربية التقليدية التي عملت، على مر عقود، من أجل إسكات شعوبها وتدجينها، فلقد رأينا كيف تحركت الشعوب الغربية ونزلت إلى الشوارع منددةً بالمجازر الإسرائيلية رغم تعرضهم للمضايقات والإرهاب الفكري والطرد من وظائفهم، إلا أنهم أثبتوا أنهم شعوبٌ حية وحرة، على عكس ما جرى في العالم العربي؛ حيث كانت التحركات خجولة لأسباب كثيرة متعلقة بالمفهوم السوسيولوجي والسيكولوجي، نتيجة ما تعرضت له تلك الشعوب من إرهاب الدولة وأدواتها البيروقراطية والبوليسية.
انتصار غزة يعني انتصار الإسلام السياسي
في الوقت نفسه، إن انتصار غزة يعني انتصار حماس، وانتصار حماس يعني انتصار الإسلام السياسي العدو اللدود للمنظومة العربية التقليدية، وهذا الانتصار ربما يكون مفجراً لربيع عربي جديد في المنطقة بأسرها.
بعد طوفان الأقصى، أصبحت حماس رقماً صعباً في المعادلة السياسية الداخلية والخارجية؛ إذ استطاعت الحركة أن تتقن فن التفاوض، وتبدع في الإعلام العسكري وتوصيل خطابهم الحديث غير التقليدي للعالم. لقد أتقنوا عملية الإعلام من خلال فضح العدو والمعاملة الحسنة للأسرى وطريقة تسليمهم للصليب الأحمر أمام كاميرات العالم، هكذا استطاعت حماس أن تضرب حركة فتح ضربة موجعة تتصدر مشهد المقاومة كحركة وطنية ذات هوية إسلامية. فكل الخطابات التي تطلقها إسرائيل وغيرها من الدول على من سوف يتولى قيادة غزة بعد الحرب هو كلام غير منطقي، قوة حماس بالتحامها مع بيئتها الحاضنة. أما في الخارج، فإن انتصارها هو بمثابة تحريك المياه الراكدة وإعادة إحياء لتلك المنظومة السياسية والدعوية أي حركة الإخوان المسلمين، وهذا ما تتخوف منه، على وجه الخصوص، الدولة المصرية التي أجرت انتخاباتها الرئاسية من دون أي ضجة إعلامية؛ حيث فاز الرئيس عبد الفتاح السيسي بولاية أخرى. إضافةً إلى أن الأوضاع الاقتصادية والنقدية والاجتماعية للبلاد وحالة التذمر في الأوساط الشعبية هي فرصة مناسبة لحركة الإخوان كي تتحرك طبعاً إذا انتهت الحرب بما تشتهي السفن.
ضرب قطار التطبيع
أما بالنسبة إلى التطبيع وقطاره السريع، فانتصار غزة يعني الموت السريري لهذا المشروع التخريبي للمنطقة، وعملية الطوفان كانت صفعة قوية قد تكون قاضية لعملية التطبيع، خصوصاً بعد المجازر التي قامت بها إسرائيل تجاه الأطفال والنساء من دون تحقيق أي نجاح عسكري أو سياسي، وتلك المجازر طُبعت في العقل العربي والذاكرة السياسية والتاريخية للشعوب العربية، فأصبحت الحكومات العربية محرجة أمام شعوبها ومضطرة لرفض التطبيع ولو موقّتاً، وإبرام أي صفقة من هذا النوع قد يكون له آثارٌ سياسيّة وتحولٌ اجتماعي في المستقبل القريب أو البعيد.
إن انتصار المقاومة في غزة هو هزيمة لصفقة القرن وللعقل العربي التقليدي والنخب الحاكمة والمنظومة العربية التي لن تقبل بأي مشروع نهضوي أو مقاوم أو تحرري قد يعرض عروشها للخطر، فمثل هذه المشاريع هي أشبه بالربيع العربي الذي أجهضته في مصر وتونس وسوريا وليبيا ولكن بِحُلة جديدة، وعلى الشعب الفلسطيني أن يدرك أن التحدي الأكبر سوف يبدأ بعد انتهاء الحرب، وكي يحافظ على انتصاره الأسطوري عليه واجبٌ أخلاقي وتاريخي أن يطلق مشروع مصالحة وطنية، بدون أي تدخل خارجي، بين كل الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس وحركة فتح والاتفاق على تأسيس جيش فلسطيني وطني وتعزيز الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. هكذا تكون ترجمة الانتصار بمشروع سياسي واضح المعالم وبداية الطريق للتحرير الكامل والشامل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.