اللغة العربية.. إلى أين وصل حالها؟

تم النشر: 2023/12/20 الساعة 10:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/20 الساعة 10:51 بتوقيت غرينتش

تحتاج المسألة اللغوية إلى وقفة متأنية، وتحليل هادئ، بسبب ما ينشأ عن بحثها في أحايين كثيرة من عواطف جارفة أو مواقف متكلسة وانفعالات. ويمكن القول ابتداءً إن اللغة ليست حياديةً دائماً، أو هي ليست حيادية تماماً، لأنها تحمل قيماً و"تسوق" أفكاراً وموازين. وإنه لَيصعب في أوضاع عديدة فصل اللغة، وهي وسيلة للتواصل والتعامل عن "حمولتها" أو عن "شحنتها". والذي أعطى اللغة كلَّ هذه الأهمية وأحاطها بنوع من الهالة والتقديس أنها لصيقة بالذات، وبسيادتها وبوجودها في العالم. ولعلها لهذا السبب ارتبطت ارتباطاً شديداً بالسياسة والمصالح الاقتصادية، واستعملت أداةً فعالة لتحقيق التوسع وبسط مناطق النفوذ. 

البعد الاستراتيجي للغة في العصر الحديث

إن العصور الحديثة بما شهدته من صراع على مناطق النفوذ والأسواق، وبما واكبها من صراعات على الهوية وإثبات الذات، في وسط عالم لا يعترف إلا بمنطق القوة والسيطرة والقهر، ولا قيمة فيه للضعيف إلا بمقدار خضوعه وطواعيته واستسلامه… إن عصوراً هذا شأنها، وعالماً هذا حاله قد أعطى اللغة بعداً استراتيجياً خاصاً، وجعلها سلاحاً خطيراً يوازي، أحياناً، في آثاره أسلحة الفتك والدمار الأخرى. ولم تعد اللغة هذه الوسيلة الحيادية التي تحقق تواصل الناس وتعارفهم، وتقرّبهم وتنظم علاقاتهم، بل أصبح لها شأن آخر، وأي شأن!

كل هذه الأوصاف إذن هي التي أعطت اللغة بعداً استراتيجياً خاصاً، وجعلتها موضع عناية واهتمام فائقين على مستوى الدول والحكومات، وفي المؤسسات الدولية والتكتلات. 

الفرنكفونية أداة الاستعمار الجديد

لكن اللغة إذا كانت بهذه القيمة وهذا الوزن فما ينبغي أن يتحول النشاط بها، والموقف تجاهها، والعناية بها إلى نوع من الحساسية المرضية والتطرف الأعمى، كاللذَين نلمسهما في مواقف بعض المؤسسات الفرنسية الرسمية، كالفرنكفونية التي تمارس سياسة الإقصاء والتهميش ضد اللغات الأخرى لتحقيق السيطرة المطلقة للغة الفرنسية وثقافتها، خدمةً لأهداف سياسية واقتصادية.

وقد أصبحت اللغة الفرنسية، بسبب هذا التطرف، أداةَ قهرٍ وإذلال تتبنَّى كل وسائل المكر والخبث والاستئصال، ضد لغات بعض الشعوب وآدابها، حين أعطتها الفرنكفونية مفهوماً سياسياً وطابعاً استعمارياً "لا يقبل واقع تطور الأشياء (…) من أجل استعمالها كوسيلة للتفاوض، من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، ومنع التغيير في بعض البلدان، بل أكثر من ذلك استعمالها كوسيلة لمحاربة اللغات الوطنية واللغات الأم…" كما يقول المهدي المنجرة في كتابه (الحرب الحضارية الأولى).

"مشكلة اللغة" في العلاقات الدولية

ليس بخافٍ أن "مشكلة اللغة" أو "مشكلة اللغات" حاضرة في العلاقات الدولية المعاصرة. فالصراع مثلاً قائم بين الإنجليزية والفرنسية، وهو يتخذ أشكالاً مختلفة ومظاهر. وهذا الصراع نفسه تشهده بعض هياكل الاتحاد الأوروبي: فالفرنسية كعادتها تبغي الوجود المهيمن والسيطرة على كل المجالس والهيئات، واللغات الأوروبية الأخرى تطالب، هي كذلك، بحقها في الوجود والاستعلان. وهذا الصراع اللغوي ثابت قائم، ولكن الدول الكبرى تحرص على إخفائه والتهوين من قيمته وشأنه، لأن إظهاره وجلاءه قد يشجع دول العالم الثالث، الواقعة تحت وطأة الغرب الحضارية، ويدفعها إلى المطالبة بحقوقها الثقافية واللغوية. وهذا ما يخشاه الغرب، ولا يسمح به؛ لأنه إيذانٌ بنهاية سيطرته وإعلام بزوال قيادته.

الموقف السليم والمعتدل من المسألة اللغوية

إن خلاصة ما يمكن التأكيد عليه، في هذا المقام، أن أي موقف من اللغة، وكل سياسة توضع لحمايتها وصيانتها، ينبغي أن تضع في الحسبان أمرين اثنين أساسيين: أولهما أن اللغة مسألة سيادة وإثبات للذات وتأكيد للوجود، وأن العبث بها هو عبث بهذه السيادة وإفناء للذات وإلغاء لهذا الوجود. وثانيهما أن العناية باللغة الأم وصيانتها لا يعني تهميش اللغات الأخرى، أو ضرب الحصار حولها أو مطاردتها. وكل سلوك من هذا القبيل هو من الحساسية الزائدة والتطرف الأعمى وهو قبلُ مصادم لهذا التنوع والاختلاف اللذَين يقوم عليهما الكون والعالم. 

حال اللغة العربية في العصر الحديث

ولمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، فإن أسئلةً جادةً من هذا القبيل تقف أمامنا: ما هو حال اللغة العربية اليوم؟ ولماذا استحالت لغةً ميتةً أو منبوذةً، يتجهّمها أهلها قبل الأباعد والخصوم؟

ولربط الحاضر بالماضي يتعين طرح هذه الأسئلة أيضاً: ما الذي كَتب للغة العربية ذلك الذيوع والانتشار إبان الحضارة العربية الإسلامية؟ وما الذي جعلها تحظى بذلك القبول، وتفوز بتلك المزية بين شعوب البلاد المفتوحة فتصبح لغتهم الأولى؟ وما الأسباب التي هيَّأتها لهذه المكانة، وحقّقت لها هذه الهيمنة والسيادة، فأصبحت لغةً عالمية تستوطِن القلوب والعقول، قبل أن تسكن بطون الكتب والمجلدات، وصفحات المعاجم والموسوعات؟ 

هل هو الإسلام الذي نزلت كلمته الخاتمة متلبسةً بهذه اللغة وناطقة بها؟ لا أعتقد ذلك لأن هذا الدين لا يزال قائماً إلى اليوم، ويفوق عدد أتباعه 7,1 مليار نسمة، وليس هناك لغة منفية أو مهانة بين أهليها، أو بين الأباعد كما هو حال اللغة العربية، التي تلقى من مظاهر الازدراء والإقصاء والتهميش ما تَلقَى.

هناك إذن أسباب أخرى وعوامل مختلفة، هي التي صنعت للغة العربية دعائم انتشارها وأسس تفوقها، وهيّأتها لهذا الدور العالمي الكبير الذي قلَّما حظيت به لغة أخرى من قبل ومن بعد. وهذه الأسباب الموضوعية يحسن بنا اليوم، ونحن في الألفية الثالثة، أن نقف عندها وقفةً متأنيةً لنبحثها ونحللها، وكذلك لنختبرها ونبتليها علَّها تكون عوناً لنا في استبانة الأمور، ووضوح الرؤية وتحقق لدينا وعياً جديداً نتسلح به لاستدراك ما فاتنا من أمورنا في شؤون اللغة العربية، وفي أمور نهضتها.

اللغة انعكاس للمستوى الحضاري

إن اللغة انعكاس للمستوى الحضاري لأي أمة من الأمم، ومرتبط وضعها بوضع أهلها الناطقين بها، وهي كذلك صورة حقيقية لهذا المستوى قوةً وضعفاً، وفاعلية وعجزاً وصعوداً وهبوطاً. وأحب أن أضيف، إمعاناً في الوضوح والبيان، أنَّ صحة اللغة واعتلالها، وقوّتها وضعفها، ونموّها وضمورها، وإشعاعها وطمسها، وجاذبيتها وشحوبها، وحيويتها وترهلها، وانتشارها وانكفاءها… كل أولئك إنما هو ناشئ ابتداءً مما يلحق أهليها الناطقين بها من صحة واعتلال، وقوة وضعف، وحيوية وترهل في حياتهم العامة والخاصة، وفي جملة أحوالهم النفسية والفكرية، والعلمية والثقافية، وفي مجموع أوضاعهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ما المقصود بالمستوى الحضاري؟

إن المستوى الحضاري هو الذي حقق للغة العربية، من قبل، عالميتها وانتشارها، فأصبحت لغةَ العلوم والمعارف، ولغةَ الغالبين والمتحضرين. والمقصود بالمستوى الحضاري هنا هذه الروح السارية في نفوس العرب الفاتحين والذين جاءوا من بعدهم، والمعاملات الإنسانية الراقية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً، من قبل ومن بعد، ومظاهر القوة والحزم البادية في مواقفهم وأعمالهم، مضافاً إليها ومتبوعاً بها، لا العكس، الحركة العلمية الواسعة، وحركة الترجمة والنقل التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة، وحركات البناء والإنشاء والتعمير التي أقامها العرب الفاتحون في كل بلد دخلوه أو مصر نزلوه، وأحوال السبق والنبوغ، ومظاهر الغلبة والتفوق والامتياز التي صاحبت العرب الأوائل في حركتهم وسكونهم، وفي حربهم وسلمهم، وفي حِلهم وترحالهم، وفي كلِّ أحوالهم.

هذا المستوى الحضاري الذي سبقت الإشارة إليه هو الذي تَمثَّل في نفوس العرب والمسلمين الفاتحين، فجعلهم جديرين بالسيادة، وجديرين بقيادة البشرية، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم، وتخطب ودهم، وتذعن لهم، وتحتضن دينهم، وتتبنَّى لغتهم. 

وإنَّ أظهرَ عنصرٍ في هذه الحضارة العربية، بل إن أكبر تجلٍّ لهذا المستوى الحضاري الفائق، إنما هو تلك الروح التي غرسها الإسلام في نفوس العرب والمسلمين، حين وجد قلوباً ملتهبة تحتضنه، وعقولاً نيّرة تستوعبه، ونفوساً كباراً ترتقي على الدوام إلى عظمته ومستواه. 

وبسبب هذه الروح المهيمنة الغالبة، فإن شيئاً لم يقف في طريق هذه الحضارة، أو يمنع سيرها حين طفقت، في البلدان والأقاليم، تندفع وتتوسع وتتمدد وتستطيل. وإن هذا المستوى الحضاري أيضاً ومظاهر الغلب وملامح القوة في الحضارة العربية الإسلامية، هي التي كتبت الذيوع والانتشار للغة العربية، وأهّلتها لأن تكون اللغة العالمية ذات المكانة والحضور والهيبة والاعتبار.

وإذا كان ابن خلدون قد أثبت "أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته وسائر أحواله وعوائده…"، فإن هذا الأمر قد تحقَّق بنصيب كبير للعرب الفاتحين، إذ كانت لهم الغلبة حضارياً، ولم يكن من بدٍّ حينئذ أن تخضع لهم شعوب الأرض قاطبةً خضوع التلميذ للأستاذ، فتتبنَّى دينهم ولغتهم وثقافتهم، وجلّ أشعارهم وأزيائهم وأذواقهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دلاوي نصر الدّين
أستاذ جزائري
أستاذ جزائري
تحميل المزيد