تزخر ذاكرتنا بالليالي المؤلمة، فليلة سقوط بغداد، وليلة الانقضاض على الشرعية، وصولاً إلى ليالي غزة، وعلى الرغم من هذه الذاكرة المترعة، إلا أن ليلة سقوط رواية الاحتلال وصورته لها وقع لا يقل عن الليالي السابقة أثراً في المحتلّ، وفي صورته أمام العالم في قوادم الأيام، فلم يعد ما تقوله أذرع الاحتلال الأمنية والسياسية يجد تقبلاً في الرأي العام العالمي، عدا عن المصداقية، وهو ما انعكس بكل تأكيد على حجم التضامن مع فلسطين والدفاع عنها والحديث في عواصم العالم عامة، وفي الغرب على وجه الخصوص، وهو ما يتصاعد بالتوازي مع استمرار المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال.
ومع تصاعد التضامن مع فلسطين على أرض الواقع، وفي منصات التواصل الاجتماعي، حذر خبراء لدى الاحتلال من عزلة إسرائيل على الصعيد الدولي، وقد وصف كاتب في صحيفة تايمز أوف إسرائيل بأن "إسرائيل تعاني من انفصال أخلاقي عن المجتمع الدولي"، وهو ما دفع الاحتلال لمزيد من العمل لترميم صورته أمام العالم.
تأييد فلسطين 3 أضعاف تأييد الاحتلال
أمام حالة الخنق الذي تعانيه العديد من البلاد العربية، تستمر المظاهرات الضخمة في العديد من مدن العالم الغربي، إذ تشهد العاصمة البريطانية لندن مظاهرات مليونيّة، وصفت العديد منها بأنها الأكبر منذ الحرب على العراق، وبحسب بياناتٍ أمريكيّة فقد شهدت الولايات المتحدة حتى الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري أكثر من 2600 مسيرة تؤيد الفلسطينيين أو الاحتلال، شارك فيها أكثر من مليون أمريكي، وبحسب هذه المعطيات، فإن حجم المتضامنين مع فلسطين يشكلون ثلاثة أضعاف المؤيدين للعدو، إذ شارك 694 ألف أمريكي في وقفات دعم لغزة، في مقابل 293 ألفاً أيدوا العدوان.
ولا تقف هذه المظاهرات عند هاتين الدولتين، فعلى الرغم من محاولة قمع الفعاليات المتضامنة مع فلسطين في فرنسا وألمانيا، إلا أن هاتين الدولتين تشهدان أسبوعياً مظاهرات كبيرة داعمة لفلسطين، إضافةً إلى المسيرات شبه الأسبوعية في بروكسل ومدريد وميلانو أودنسي وهلسنكي وغيرها، التي تطالب بوقف العدوان والمجازر في غزة.
سقوط مدوٍ في الشبكة العنكبوتية
على الرغم من انحياز منصات التواصل الاجتماعي الكامل لرواية الاحتلال، بل وضغط الجهات السياسية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي لفرض هذا الانحياز، وتطبيق المزيد من الحصار للمحتوى الداعم لفلسطين، فإن منصة تيك توك على سبيل المثال شهدت تعاطفاً كبيراً مع الوسوم التي تتضامن مع فلسطين وغزة، وشكلت مساحة مهمة لنشر الرواية الفلسطينية، بل تجاوزت ذلك لتكون فاتحة ليتعرف الغربيون عامة، والأمريكيون على وجه الخصوص على الإسلام، انطلاقاً مما شاهدوه من الصبر والتسليم من أهلنا الصامدين في غزة، وبحسب القناة العبرية الـ 12، وبناء على تحليل لشركات مختصة بالذكاء الاصطناعي بأن 83% من منشورات الإنترنت المتعلقة بالعدوان على غزة هي ضد دولة "إسرائيل"، في مقابل 9% تؤيدها، وبحسب هذه القناة، فإن كل تقرير إيجابي يؤيد الاحتلال في المواقع الإخبارية الكبرى هناك 3 تقارير سلبية عنها.
وبالتوازي مع انتشار التضامن مع الفلسطينيين، تعرف الشباب في مختلف أنحاء العالم على تاريخ الصراع مع الاحتلال، ولم تعد الرواية الإسرائيلية مقبولة لديهم، فبحسب استطلاع أجراه معهد هاريس بالتعاون مع معهد الدراسات السياسية الأمريكية التابع لجامعة هارفارد، تناول موقف الشباب الأمريكي ما بين 18 و24 عاماً، من إنهاء "إسرائيل" وتسليمها لحماس وللفلسطينيين، وبحسب الاستطلاع فإن 51% من الشباب الأمريكي يؤيدون إنهاء دولة الاحتلال، وكلما تصاعد عمر الشريحة المستهدفة، زاد تأييدها لدولة الاحتلال.
ومن الأمور التي تلفت النظر، وتؤكدها المعطيات السابقة، بأن التضامن مع فلسطين يتصاعد عندما يقاومون الاحتلال، ويشير الاستطلاع آنف الذكر إلى أن نحو 50% من الشباب الأمريكي ما بين 18 و24 عاماً يدعمون حماس في هذا الصراع، إضافةً إلى أن هناك نحو 60% منهم يرون بأن الاحتلال ارتكب مذابح في غزة، ما يُشير بشكلٍ واضح إلى تغيير كبير في تفاعل هذه الفئات العمرية، واعتمادها على مواقفها على وسائل التواصل الاجتماعي وليس على الإعلام التقليدي المنحاز للاحتلال.
محاولة لاسترجاع المكانة
على الرغم من استمرار الإعلام الغربي باستخدام صيغة "هل تدين ما قامت به حماس"، في أي مقابلة تقوم بها وتستضيف مسلمين، إلا أن الاحتلال لم يترك الأمر لهذه الأدوات فقط، فالتراجع الكبير لروايته دفع أذرعه المختلفة إلى صرف ملايين الدولارات على الدعاية المؤيدة لها ولتصرفاتها في عددٍ من الدول الأوروبية وخاصة في فرنسا، فبحسب مصادر غربية اختارت خارجية الاحتلال موقع يوتيوب لنشر نحو 100 مقطع دعائي للترويج لروايتهم عن أحداث 7 أكتوبر، وبلغ ما صرفته الخارجية على هذه الدعاية أكثر من 8 ملايين دولار، واستهدفت على التوالي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
أخيراً، تفاصيل تراجع رواية الاحتلال كثيرة جداً، وهو ما بدأ يتسرب إلى الساسة ولو بشكلٍ خجول، فمن تصريحاتٍ لافتة لنائب في مجلس النواب الأوروبي، إلى إطفاء شمعدان "الحانوكا" في بولندا، وصولاً إلى التململ لدى دوائر صناعة القرار في البيت الأبيض جميعها ملامح عن تغييرات أخرى، ولكن الأكثر أهمية هنا أن نستمر في الحديث عن فلسطين، وغزة والقدس، لا أن تكون حالة مرتبطة بالعدوان فقط، وأن نستطيع في لحظة ما أن نشكل أدوات الضغط الخاصة بنا، فلا يمكن أن نكون وفي معركة بهذا الحجم وبهذه الكثافة، بعيدين عن لعبة "اللوبي"، وأن ننتظر الآخرين ليخوضوا معاركنا عنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.