لستُ أَعمى لأُبْصِرَ ما تبصرونْ فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي إلى عَدَمٍ أَو جُنُونْ!
محمود درويش"
لست ذلك الشخص الذي يعيد قراءة الكتب؛ إذ أرى العالم كبيراً جداً، بينما الحياة قصيرة جداً. وبالنسبة لي إعادة قراءة كتاب ما تسرق الوقت من كتاب جديد لم اكتشفه بعد، كتاب لن أقرأه وأنا على فراش الموت. لذا، عندما أخبرك أنني قرأت رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو أكثر من مرة، ستعرف مدى جديتي في هذا الأمر.
الرواية (العمى) للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو تعتبر عملاً أدبياً استثنائياً يفتح أبواب النقاش حول الطبيعة الإنسانية؛ إذ يضع الإنسان عارياً من كل الأقنعة الزائفة وهالات المثالية المصطنعة، والمكيجة الأخلاقية التي يتطلبها العيش في مجتمع.
يروي ساراماغو حكايته بروح الدعابة والرحمة، وبخيال لا حدود له، بما يكفي لاستحضار وباء مستحيل دون إغفال مقتضيات الحياة الفعلية، محققاً ذلك المزيج النادر من السحر والواقع الذي يسمح لنا فيه الخيال برؤية واقعنا. العالم بشكل أكثر وضوحاً، من منظور يبرز تفاصيل ربما لم نفكر فيها بطريقة أخرى. حيث يخلق جوزيه ساراماغو "حالة اختبار" للمعاني الإنسانية حين ينتشر وباء العمى في المجتمع، حيث يفقد الناس القدرة على الرؤية تباعاً.
تحكي الرواية عن وباء العمى، الذي يتسلل إلى أروقة الحياة، يأتي بصمت مدمر ليخلق عتمة، لكنها بيضاء. خلال أيام قليلة، يتحول البصر إلى ذكرى، ويختبئ العالم الذي نعتقد أننا نعرفه وراء ذلك البياض.
ومن خلال عيون 6 شخصيات، يتقاطع مصيرهم، هم طبيب عيون، زوجته ومرضاه في العيادة، وهذه الزوجة هي الوحيدة التي لا تصاب بالعمى. تتشابك الخيوط في رواية ملتوية؛ حيث تتحول البلاد إلى فوضى، وتتسارع الإنسانية نحو حافة الهاوية، وهنا بالتحديد تَختبر الإنسانية نفسها، إذ تُختبر الشعارات والمبادئ الرنانة، الأخلاق والضمير الإنساني.
في رواية العمى لا وجود للأشرار بشكل واضح وصريح، إنما الذي يوجد ضحايا سقطوا من قاموس الإنسانية، أناس فشلوا في اختبارات ساراماغو القاسية لنيل درجة الإنسانية.
في الرواية أيضاً لا توجد أسماء، فقط مجرد مهن وصفات عامة لتمييز الشخصيات عن بعضها، وكأن الكاتب يرغب في تجريدهم من بشريتهم – فهم ليسوا بشراً أسوياء- كما يعلنها في الرواية على لسان زوجة الطبيب، وإنما مجرد كائنات لا تريد أن تنحدر أكثر إلى درجة الحيوانية.
لن يتطلب الأمر من القارئ أن يقرأ الكثير من صفحات الرواية حتى يفهم أن ما يرمز إليه الكاتب بهذا العمى.. ما هو إلا الجهل فهو وحده الوباء الذي يجرّد البشر من إنسانيتهم، فالكاتب ينقل لنا بشكل مدهش كيف يمكن للجهل أن يتسلل إلينا كبشر؛ ليسلخنا من إنسانيتنا، فنستبصر من خلال العمى كيف لنزع الآدمية من البشر أن تؤدي إلى انهيار العالم.
في عالم ساراماغو نجد المكفوفين الذين يقودون المكفوفين، وهو ما يشبه واقعنا اليوم الذي يقوده الجاهلون والمتطرفون باسم الحضارة، إذ نرى الاحتلال الإسرائيلي بكل وحشية يلتهم ويمزق الأطفال والنساء في غزة باسم الدفاع عن النفس، فنجد الحكومات الغربية التي تحصر العقلانية والتنوير في ذاتها فقطـ، تدعم الاحتلال ليسحق الفلسطينيين تحت شعارات الدفاع عن التحضر والإنسانية.
عمى يصيب العالم وينزع منه إنسانيته، فأي عالم متحضر ذلك، يدافع عن نفسه بقتل أكثر من 18 ألف برئ بأسلحة تكلف الملايين يومياً، أي جامعات أخرجت لنا ساسة ورؤساء بهذا الرقي ليدعموا استمرار المذابح بشكل يومي في بلاد لا تخصهم.
يكمن ذلك العمى (الجهل) في الفكر الاستعماري الذي عشش في أوروبا لقرون، تاركاً إرث فكرى ما زال يسيطر على عقول أغلب الساسة في الغرب يجعلهم قادرين بكل أريحية على نزع الإنسانية عن أي شعب وقتله تحت شعار حماية التحضر، وربما هذا ما يفسر لماذا تسافر الإمبراطورية الأمريكية بجنودها إلى أفغانستان وفيتنام، واليوم إلى غزة بهدف حماية التحضر.
ما يعمى عنه أغلب الساسة في الغرب أن العالم أصبح أكثر تعقيداً وترابطاً، وبدعمهم المتواصل للمذابح والقتل ينسفون بذلك بشكل علني كل المبادئ والقوانين التي تترابط بها المجتمعات في العالم، فعلى سبيل المثال، عندما تقف أمريكا أمام العالم في مجلس الأمن رافعة حق الفيتو لوقف أي محاولات تعمل لوقف آلة القتل الإسرائيلية في غزة تحت شعار حقها القانوني، فهو ضرب لمفاهيم مثل القانون والعدل من الأساس، إذ تبدأ الأسئلة في الطرح بشكل جدي: لماذا تمتلك الدول الكبرى حق الفيتو دون غيرها؟ أليس لأنها تملك القوة؟! أليس ذلك ضد مفهوم العدل؟!
ما أشبه العالم اليوم بعالم ساراماغو، حيث يقود العميان عميان مثلهم، فرغم كل الفظائع التي تُرتكب في غزة يقف العالم صامتاً، بل يتجادل حول حقيقة ما يحدث في غزة وأسبابه، إذ استيقظ الناس على القضية الفلسطينية من شهرين فقط، بينما يستعمون من عمليات الإبادة الممنهجة للفلسطينيين المستمرة منذ أكثر من 75 عاماً.
اليوم أكثر من أي يوم مضى، أؤمن بأن البصيرة هي قطعاً أفضل من البصر، على الرغم من أنها تكون حملاً ثقيلاً لو امتلكها المرء وحده بين مجموعة من عديمي البصيرة، وربما هذا ما يشعر به كل من يقف مع فلسطين ضد العالم، وهو ما جسده ساراماغو في شخصية زوجة الطبيب، التي كانت المبصرة الوحيدة وسط العميان، فحين يبدأ الناس في استعادة بصرهم ببطء نجدها تقول: "هل تريد مني أن أخبرك بما أفكر فيه؟
نعم.
لا أعتقد أننا أصبحنا عمياناً، أعتقد أننا عميان، عميان ولكننا نبصر، عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يبصرون".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.