قِلة العلم بالشيء ليست مصيبة أحياناً، فكثرة العلم بالشيء ربما تكلف كثيراً من الصحة والوقت، فتكبير الإحاطة أمر مروّع وكثير على المرء، عندما يعلم الإنسان الأشياء التي في حوزته لا يكتفي، فيحاول فيما حوله ثم في محيطه الأكبر، ثم يخرج ليعرف ما لا تعرفه الكثرة، وهنا تبدأ مشكلة النفس، كيف ستنظر لمحيطك؟ ثم لمن حولك؟ ثم فيما تملك؟ تشابك المعرفة قد يولد انفجاراً، ويؤدي إلى نتائج مؤسفة كالتخلي، أو التمرد، أو المقارنة، وتلك المقارنة وحدها تأخذ مدة طويلة بعض الشيء، سنوات ربما، لكنك لا تصل إلى نتيجة ناجعة.
اليوم، معرفة المرء الكبيرة عن قضية فلسطين تقرب إليه آخرته، تصغر هذه الدنيا في عينيه، وتورث العجز إذا ما استمرت الظروف الحالية، من حرب مؤلمة، وحرب طاحنة، فمع استمرار العجز والإحباط، نتماهى مع متطلبات حياتنا العادية بما يوازي إحاطتنا بالقضية، لا كما كنا قبلها.
نعرف فلسطين منذ صغرنا، نعم نعرفها، والأخبار لا تنقطع طوال مراحل حياتنا، لكن تعمقنا في معرفة أكبر بعد طوفان الأقصى، فأصبحت أوضح وأكثر جلالاً على أمثالنا، إذ ندرك اليوم أكثر من يوم مضى مأساتنا، ونعلم اليوم أكثر معنى الاستعمار، إذ نعرف اليوم ماذا تعني دولة الاحتلال للقوى الغربية، وكيف زرعوها بعد أن تقاسموا دولنا لتكون لهم بُعداً استراتيجياً وحصناً اقتصادياً منيعاً، ومطعماً كبيراً نشأ في عصر الإمبريالية الغربية الذي يتضح أنه لم ينتهِ إلى اليوم رغم خروج جيوشهم، تغيرت الطريقة والآلة، لكن الاستعمار الغربي ما زال جاثماً منذ تلك المدة.
معرفتنا كشعوب عربية تضخمت، وعلمنا زاد بقضايانا الظاهرة وغير الظاهرة، والتي يطبع عليها طابع الألم الدائم، فتتصدر كل مبحث ومقال، وللأسف طبعت عليها صفة التباكي، التي تتعدد فيها منجزات غابرة وغير مواتية، ما أدى إلى ضعف الأجيال وتحطيمها نفسياً دونما قصد، خصوصاً أن القمع المحلي -وهو حسب النظريات الغربية- الطريقة الأنجع لاستمرارية الاستعمار.
هذه النظرة والمعرفة اليائسة لقضايانا ربما أدت إلى الانكفاء على الذات، وتصور أن النجاة فردية، فأصبحت تنتشر بين أفرادنا أن قضايانا بلا حلول، ولا سبيل غير ترك المركب حتى ولو نفسياً.
لكن يأتي اليوم، ليتضح لنا أن النأي بالنفس مشكلة كبرى حطمت أحلام العرب والمسلمين جميعاً، وأثخنت يد الغرب فينا، بل ربما كانت وراء فقدان دولنا هيبتها بين الأمم والشعوب، فأصبح حالنا كحال الابن الذي خرج من بيت أبيه ظناً منه العيش بسلام من مشكلات الأسرة الكبيرة، ولا يعلم أنه يفقد بهذا صلة الرحم يوماً إثر يوم، الأمر الذي يفقد معه كينونته وذاته وبيته الدافئ ومبادئه، بل وقلبه الذي طالما كان يتدفق حباً وعذوبة.
إن قضايانا هي ما تجمعنا وتوحدنا، فنعرف بها ذواتنا ونشكّل عالمنا، بكل ما فيه من تفاعلات وحياة، كالفن وغيره من مفردات العيش، لقد استطاع الغرب استعمار عوالمنا، وصدر لنا الفردية كخلاص وما هي إلا سراب. وقد نجحت بعض الأنظمة العربية في تصدير ذلك الفكر والاعتقاد لشعوبها للسيطرة عليها، وهذا النجاح هو نجاح للغرب.
لا يمكن الانسلاخ عن قضايانا، فهو انسلاخ عن الإنسانية، فماذا يمكن أن نقول في المجاعة التي تحدث في شمال غزة، بينما آلاف الشاحنات المحملة بالأغذية في الجانب الآخر لا تستطيع دخول القطاع بأمر الاحتلال؟ كيف يمكن التحدث عن إنجازاتنا ولم نسد رمق المغلوبين على أمرهم في غزة؟ كيف لنا بعد مشاهدتنا تلك المذابح بحق أهلنا في غزة أن نتحدث عن حقوق الإنسان وكرامته؟
إن الحرب في غزة ليست مسألة سياسية، لم يكن الهدف إنهاء حماس بل إنهاء الفلسطينيين من الوجود عن طريق الإبادة لشعب بأكمله بشتى الطرق المادية والنفسية.
اليوم أكثر من أي يوم مضى، تقودنا المعرفة بكل هذه المعاناة وهذا التاريخ المروع لهذا الشعب الأبي ولخذلان إخوته العرب والمسلمين، أنه لا سبيل غير أن نناضل من أجل قضايانا.. فإلى متى هكذا نسير خلف الاستعمار؟ إلى متى نُصدّر الهوان ونمحو ذواتنا؟!
أؤمن دائماً بأهمية المعرفة العامة البعيدة عن التخصصات العلمية المختلفة، وتقصي الحقيقة والتبحر في ذلك، لكنني الآن آمل لو أستطيع أن أغض النظر عنها والاتساق أكثر مع أهمية أن يبقى أبنائي على المعارف المتعلقة بتخصصاتهم فقط؛ لأنهم لن يطيقوا معرفة الحقيقة المرَّة للأنظمة العربية والإسلامية كافة.
إن معرفة الحقائق ليست ثقيلة على الدوام، فربما تكون لأشياء ناصعة البياض تزيدنا رفعةً وتميزاً كأن ننتصر لقضايانا، فننتصر لفلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.