كطوفانٍ يجرفُ معه كل الملوّثات والشوائب، جاءت موقعة طوفان الأقصى صبيحة 7 أكتوبر، فجرّفت معها العديد من المزاعم العتيقة التي نشأت عليها الأجيال، فهي لم تكشف سوءات الاحتلال الإسرائيلي وضعفه وترهّله فحسب، بل أزاحت أيضاً عن أصحابها في حركة المقاومة الإسلامية حماس ادّعاءاتٍ باطلة تداولها السطحيّون في السياسة، الذين يتبنّون آراءهم السياسية طبقاً لانطباعتهم المسبقة، ولم يكن الرد على تلك الأقوال المكرورة بحاجةٍ لطوفانٍ آنذاك لضعف الرواية والراوي، ولكنّ الطوفان اليوم جاء وأخذ معه تلك المزاعم، بما لا يدع مجالاً للشك على الإطلاق.
زعمَ الكثيرون سابقاً، أن حماس تخلّت عن حركة الجهاد الإسلامي خلال مواجهتها مع الاحتلال الإسرائيلي بمعركة وحدة الساحات في أغسطس/آب من العام 2022، وتركت زميلتها في المقاومة فريسة سهلة بين أنياب الضباع، وراحوا يوسّعون من نطاق حديثهم حول هذا الصدد، وكأنهم تصيّدوا خطأً جسيماً للحركة، وسُئِل مناصرو الحركة آنذاك كثيراً عن هذه المعضلة، ولم يكن بحوزتهم سوى الجواب التالي: لحماس حساباتُها الخاصة بها، ونحن لسنا قادة ميدانيين في كتائب القسام كي نتبنى الإجابة التي تريدونها، ولكن هذا التفسير لم يعجبهم لأنهم ظنوا أن الموقف الحمساوي آنذاك، سوف يشكّل نهاية الزخم الشعبي، فتظهر الحركة بمظهر الحمل الوديع الذي لا يقوى على مواجهة الاحتلال، إلّا أن طوفان الأقصى ألجمهم اليوم، وكان جواباً كافياً وزيادة، فللحركة حساباتُها نعم، لأنها كانت في مرحلة معقدة وحساسة للغاية من التجهيزات لليوم المرتقب، وقد قالت صحيفة هآرتس العبرية إن حماس مارست التضليل والخداع لمدة 18 شهراً وأكثر، وحاولت إيهام الاحتلال بأنها بعيدة عن فكرة المواجهة المفتوحة، وبالتالي جاء عدم مشاركة الحركة في معركة وحدة الساحات دافعاً إضافياً نحو إيقاع الاحتلال في وحل الوهم، لدرجة أن نتنياهو لم يكترث بكل التقارير التي سيقت له حول تجهيزات ما، تحدث في قطاع غزة، وهناك شيء يبعث على الريبة، إلّا أنه آثر التجاهل اعتقاداً منه أن حماس لم تعد تفكر في مواجهة جيشه المأزوم، فجاءت "طوفان الأقصى" كاشفةً لكل تلك الادعاءات، والغريب في الأمر أن الذين عابوا على حماس آنذاك عدم دخولها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، هم ذاتهم الذين يُعيبون عليها اليوم اقتحامها لمستوطنات الغلاف، بذريعة أنها جازفت بأرواح 2.3 مليون فلسطيني، وبذلك يكونون قد عابوا على حماس جنوحها للسلم والحرب في الوقت نفسه، فما المطلوب إذاً؟!
برّأت معركة طوفان الأقصى حركة حماس من تهمة التبعية لإيران وحزب الله، وذلك أن قرار المواجهة كان فلسطينياً بامتياز، ولم تطلع عليه إيران ولا حزب الله، وهذا ما قاله أمين عام حزب الله حسن نصر الله في كلمته المتلفزة، حينما نفى علم إيران والحزب بموعد طوفان الأقصى، معتبراً أن أصحاب القرار هم قيادات حماس وأصحاب القضية بالدرجة الأولى، ولو كانت حماس في جيب إيران كما يروّج أصحاب التفكير السطحي، لكان القرار من طهران أو من بيروت وليس من غزة، أو أطلعت حماس هاتين العاصمتين على قرارها في أدنى التقديرات.
وتبرئة حماس من تهمة التبعية لإيران لا تحتاج إلى دليل دامغ، لأن أصحاب هذه الرواية يعتمدون على تصريحات (مُنتقَدة قولاً واحداً) لقياديين في الحركة، أشادوا بإيران وأطروا عليها، وهذه التصريحات كانت محل انتقاد واسع حتى داخل صفوف المناصرين للحركة، الذين أغرقوا حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي بتدوينات ومنشورات تعبّر عن جام غضبهم من تلك التصريحات التي جاءت في التوقيت الخاطئ، ولكن الفرق يكمن هنا، بين مَن ينتقد بدافع التصويب وبدافع الغيرة على تاريخ الحركة المشرّف، وبين من ينتقد بدافع مصلحة حزبه أو فصيله الخصم للحركة، متناسياً أن في تلك الجهات التي يُحب، مَن أشاد بإيران أكثر من حماس، وهنا أسوق تصريحاً للسفير "الفلسطيني" في إيران صلاح الزواوي الذي قال في كلمة له بمؤتمر "لجان السياسة الخارجية في برلمانات الدول المدافعة عن فلسطين": (سنصلي في المسجد الأقصى المحرَّر خلف الإمام الخامنئي، وإن القائدَين الحاج قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ارتقيا إلى مرتبة الشهادة دفاعاً عن القدس)، وهذا التصريح لا يختلف بمضمونه عن تصريح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، الذي وصف فيه قاسم سليماني بأنه شهيد القدس، فعلامَ كانت الضجة آنذاك ضد حماس، ولم تكن ضد تصريح السفير الفلسطيني؟ ناهيك عن العلاقات المتحسنة كثيراً بين إيران ودول إقليمية مهمة في المنطقة.
إن قرار معركة طوفان الأقصى، ليس القرار اليتيم الذي اتخذته حماس بعيداً عن رغبات طهران، بل سبقه قرارات تفوقه أهمية بكثير، لأن قرار الطوفان ربما يتماشى مع سياسات إيران، في حين أن قرارات أخرى اتخذتها الحركة لم تتماشَ أبداً مع تلك السياسات، فقرار الخروج من سورية على سبيل المثال، ومناصرة الثورة السورية لسنوات، كان قراراً داخلياً بامتياز، مخالفاً لكل مواقف المحور، وقد حافظت عليه الحركة لسنوات طويلة، ولم تستبدله إلا بقرار داخلي أيضاً، سبقه مواقف دول عربية وإقليمية أعادت هي الأخرى علاقاتها مع النظام السوري بحثاً عن مصلحتها السياسية، ومع ذلك كان قرار عودة العلاقات بين حماس والنظام السوري محل انتقاد كثيرين من مناصري الحركة فلسطينياً وإقليمياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.