إن الدارس للتاريخ عبر محطات الوصول السابقة حتى هذه اللحظة ما إن يجد فيها تركيزاً قوياً على الشرق الأوسط، حتى يطرح الكثير من التساؤلات، أبرزها: ما هو السر وراء هذه المنطقة؟
على الرغم من أن مصطلح الشرق الأوسط فضفاض جداً، حيث إنه هناك للقُطر والحدود في هذه القطعة الجغرافية الشاسعة طابع خاص حسب الأهداف السياسية والإقليمية للدول التي تستخدم هذا المصطلح، وبالتالي فإن الدخول في معترك تحديد المساحات الممتدة في المفهوم ربما سيُضَيع علينا الهدف الرئيسي من هذا المقال، وبه آثرنا التركيز على ما يهم المتلقي نحو قلب الشرق الأوسط وهو العالم العربي والإسلامي.
وعبر التاريخ؛ اُعتبر الشرق الأوسط محطة اهتمام وتركيز الحضارات الكبرى القديمة منها والحديثة أيضا، بدءاً من الاهتمام الفارسي، فالإمبراطورية الرومانية، وتتالت بعدهما اهتمامات العالم، مروراً بفترات زمنية رئيسة عديدة، كـان آخرها – ولا يزال – اهتمام الاستعمار الأوروبي الحديث وإنشاء الاحتلال الإسرائيلي الذي يُعتبر امتداداً للهيمنة الإمبريالية الغربية مغروساً بين العرب بعد إنهاء الحكم العثماني.
وحيث إن قلب العالم هو الشرق الأوسط، وإن الذي يسيطر عليه سيسيطر بالتأكيد على مجريات الأحداث الكبرى، وسيكون له دور محوري في تقرير مسارات العالم، على نحو ما تحدث عنه حزب المحافظين البريطاني كذلك في مؤتمر سري له، شارك فيه رئيس الوزراء البريطاني آنذاك "هنري كامبل بانرمان" عام 1905 وبحضور نخبة من الاستراتيجيين والفلاسفة، الذين أجمعوا على أن الشرق الأوسط ببحره الأبيض هو الشريان الحيوي للاستعمار؛ على اعتباره الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، وأنه واصلة عقد القارات القديمة الثلاث: الآسيوية والأفريقية والأوروبية، وملتقى طرق العالم وممراته المائية الرئيسية وقلبه النابض باحتياطيات هائلة من نفط وغاز ومعادن نفيسة، فضلاً عن تنوع جغرافي وتضاريسي مهم وأيضاً مهد الشرائع السماوية والحضارات القديمة.. ومن يسيطر على القلب يسيطر على الجسد، ضماناً لسيادة الحضارة الغربية على العالم وإيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الغرب الاستعماري على المنطقة إلى أطول أمد ممكن.
وقد ظلت وثيقة كامبل منذ عام 1907 دعوة استراتيجية لصناع الحروب وسادة المال الغربي للسيطرة والهيمنة على الشرق الأوسط وتجزئته وجعله كيانات صغيرة تابعة محكومة، ورغبة جشعة لإعادة تقسيم العالم، بما يخدم مصالح المشروع الإمبريالي قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، مع توظيف مختلف الأدوات لتنفيذ المشروع التوسعي والتفكيكي لتركة السلطنة العثمانية المريضة إلى دول قومية متجزئة تخدم نظام الفصل بين شقيه الآسيوي والأفريقي المتمثل في ما سمي "البافر ستيت "؛ وهو كيان قوي ومتفوق وحاجز بشري غريب يُشكَّل في السواحل الشرقية المتوسطية، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار تكون عدوة لسكان المنطقة.
وعلى الرغم من أن "وثيقة كامبل " تفتقد للأدلة القطعية على ثبوتها في الأرشيف البريطاني والمؤخذات العلمية والإعلامية على الاستدلال بها دون وجود أدلة قاطعة عليها، إلا أن مسار الأحداث على الأرض يدعم مضامينها؛ من خلال إصدار الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى مجموعة من القرارات الموثقة والوثائق التاريخية التي صدرت بعدها كالوعد البريطاني "بلفور" بمنح اليهود موطناً لهم في فلسطين واتفاقيات "سايكس بيكو" و"سان ريمو" و"فرساي" و"سيفر" و"لوزان" لتقسيم الشرق الأوسط إلى دول قومية متناحرة تخدم استقرار الحاجز الاستعماري وازدهاره وتطوره، على حساب شعوب المنطقة وأنظمة عيشها وتدهور اقتصاداتها، وقد تم الأمر بعد ثلاثين سنة من القمع البريطاني المحتل للشعب الفلسطيني، تأسس الاحتلال الإسرائيلي في شكل "دولة وظيفية" فرضت واقعاً جيواستراتيجياً يدفع بالغرب إلى إمدادها للتحكم في تلك الشرايين الحيوية وخدمة مشاريعه الاستعمارية دائماً وحصاراً ومنعاً لامتداد النفوذ الصيني أو الروسي وتواجدهما في الشرق الأوسط اليوم.
وقد رأى الدكتور عبد الوهاب المسيري وظيفية إسرائيل بأنها اتجاه منهجي قد بنته الصهيونية الغربية، بحيث يتحول إلى دولة تأسست عن طريق تحويل جماعاتها الإثنية والدينية المتطرفة إلى أدوات وظيفية تدين بالولاء للغرب الأمريكي والبريطاني بالخصوص، وتنظر لخدمة مصالحه بنظرة تعاقدية، ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي للدعم الغربي، ويتسم أيضاً بالبرود والحياد في علاقاتها، حسب الأحداث، وبما يتناسب مع حماية مصالحها ومن منظور نفعي خاضع لحساب الربح والخسارة، مع إدامة العنف في المنطقة كنموذج جزئي ومحدود وكسياسة انتهجتها الإمبريالية الغربية ضد العالم العربي والإسلامي، حيث اعتبر ذلك الدكتور منير شفيق أنه من الثوابت في تعاطي الغرب مع الشرق الأوسط؛ هو "العنف"، الذي يتخذ شكلين أساسيين: الأول: العنف الجزئي التاريخي خلال فترة الاستخراب (الاستعمار)، والثاني: العنف المستدام؛ الذي كان من خلال تصدير الاحتلال الإسرائيلي والهجرة اليهودية نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة وإنشاء دولة البافر ستايت التي نمت في ظروف عنيفة عرفت تناقضات داخلية بين مكوناتها دفعتها لخوض غمار الحروب مع الدول العربية وفصائل المقاومة الفلسطينية منذ القرن الماضي ، مع ضمان الغرب لهذا الاستمرار؛ من خلال توفير عاملين مستدامين هما: الدعم الإمبريالي والغياب العربي الإسلامي.
وإلى جانب تمويل عمليات الإبادة والعنف الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، فإنه من جانب آخر لم تتوقف التدخلات الغربية خاصة الأمريكية منها في تدبير المشاهد الاقتصادية والسياسية لدول العالم العربي والإسلامي ورسم حدوده، بما يضمن لها الريادة في الشرق الأوسط، خاصة حصر النفوذ الصيني والروسي الرافضين الأحادية القطبية على العالم التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بدعم من حلفها الأوروبي، مخلفة صراعاً دموياً بين المعسكرات الشرقية والغربية في المنطقة أنهك شعوبها وشردها بين لاجئ ومسجون أو مواطن مغلوب على أمره أمام الأنظمة الديكتاتورية المدعومة من أحد المعسكرين. حتى بعد انحسار مرحلة الاستعمار العسكري فقد ملأت الدول الغربية الكبرى الفراغ الذي خلفه الاستعمار الكلاسيكي السابق وتدخلت لتسيطر على عَصب الحياة الاقتصادية لمستعمراتها العربية والأفريقية من خلال شركاتها الاستثمارية، وقواتها للحفاظ على نفوذها، خاصة بعد أن أوجدت ظروف استدامة سيطرتها في دعم قادة عسكريين أو وحدات طائفية أو عشائرية ذات طبيعة وظيفية تتعهد بالولاء مقابل وصولها إلى سدة الحكم وإحكام قبضتها، وهو الأمر الذي تماشى مع مخطط برنارد لويس المستشار الأمني للشرق الأوسط بإدارة بوش منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ أعلنها صراحة سنة 2005 قائلاً إن الحل السليم للتعامل مع العرب والمسلمين في العالم العربي والشرق الأوسط هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية والاجتماعية، وإنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات متناحرة تزداد انقساماً من الداخل.. وقد ساهم بمعية غيره من الاستراتيجيين وبشكل كبير في تحقيق مطامع المحافظين الجدد الأمريكيين في إنهاء أي أثر للنهضة العربية الإسلامية، والقضاء على أي معارضة للأجندة الصهيونية.
وقد دون عالم الاقتصاد الأمريكي بول كريغ روبرتس هذا التصور في مقاله المفصل عن الشرق الأوسط خلال عدوان سنة 2006 بعنوان "أمريكا متواطئة مع إسرائيل في الحرب على لبنان" الذي اعتبر أن وجهة النظر الأمريكية للشرق تنطلق من أنها لا تراه سوى مجرد قطعة جغرافية لا تاريخ لها ولا تراث لدى سكانها، وأنهم شعوب متخلفة وجاهلة قد توقفت الحضارة عندهم، بل تجدهم مجرد أدوات استعمالية لا يربطها سوى الماديات ولا تصلح سوى لاستهلاك للمنتجات الغربية التي يعتمدون عليها، كما أن الدوافع الاقتصادية وإنماء الثروة الشخصية هي الحافز الذي يجعل حكامهم ينصاعون بشكل أعمى للولايات المتحدة يخدمونها بولاء كبير، وربما بفضل هذا الواقع تجرأ شمعون بيريز بقوله: "إن العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، ولم تكن هناك نتائج مرضية للمنطقة الملتهبة، ليجربوا قيادة إسرائيل إذاً".
ومما لا يدركه المخططون الغربيون بإداراتهم ولوبياتهم الصهيونية وحلفهم العسكري، أنه رغم ما وصلوا إليه من إرباك للمنطقة العربية والإسلامية وتحويلها إلى ساحات صراع دموية مضطربة وهائجة، تُسفك فيها الدماء بلا توقف، وتعاني من آثار جائحة الفقر والتخلف العلمي والاقتصادي، وقد سلطوا عليها بأنظمة قمعية عنيفة، ومع ذلك فإن الغرب يتكبد خسائر فادحة في المعارك منذ خليج الخنازير والفيتنام وحرب الخليج والهزائم المتتالية في أفغانستان والعراق، وهو ما يؤكد على علامات الانهيار، رغم ما تدعيه القوى الإمبريالية من تسلط وتحكم في النفوذ المطلق في المنطقة، لكن الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية اليوم في أصغر مساحة تسكنها أكثر كثافة ديموغرافية في العالم خلال السبعين يوماً الماضية أمام الآلة الإسرائيلية التي تحارب بالنيابة عنها، ورغم الدعم العسكري المتطور والتمويل المالي المستمر يفلق هامات المنتشين بالانتصار بأن جعل عباءة الهزيمة أثقل من ذي قبل، ليتكشف لدى العالم مدى سخف الأحلام الإمبريالية المتورمة الخاصة بالشرق الأوسط الجديد، يحيل ذلك إلى تساؤل عن مدى تماسك محاولاتهم في إذلال ملايين العرب والمسلمين الذين يشتعلون غضباً بما لحق بهم من المهانة؛ بعد أن تكشف أمامهم الجشع والتخطيط الاستعماري في تفتيت الشرق الأوسط!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.