تَركتْ الحروب الصليبية (ثماني حملات صليبية أوروبية، بدأت مع الحملة الصليبية الأولى عام 489هـ/ 1096م)، تأثيرها على العالمين الأوروبي والإسلامي في شتى النواحي السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والحضارية، فقد خَلّفت الاعتداءات الصليبية الدمار والخراب والفوضى في المدن والقرى والأراضي الزراعية والطرق التجارية والموانئ البحرية التي احتلتها أو أغارت عليها داخل الأراضي البيزنطية أو الإسلامية في جنوب الأناضول وبلاد الشام، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من سكانها، بالإضافة لتدمير كثير من المعالم الحضارية، والمراكز العلمية، والمساجد، والكنائس، مساكن ومزارع ومتاجر السكان المحليين.
نتيجة الفظائع والأعمال الإجرامية المروعة التي ارتكبها الصليبيون، بدأت المقاومة الإسلامية التي قادها السَّلاجقة، في وقت كانت تعيش فيه الأمة الإسلامية حالة تشتت وتشرذم وضياع، وفي ما بعد، اشتدت تلك المقاومة من خلال الجهود العظيمة للقائدين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود زنكي (رحمهما الله) في توحيد شمال العراق ومصر والشام، وتحرير إمارة الرها وحصون صليبية أخرى، وجاء تحرير بيت المقدس وأجزاء واسعة من الساحل الشامي في عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله)، ومن ثم جهود بعض أولاده في مصر والشام، ومن بعدهم السلاطين المماليك في استكمال مسيرة التحرير، والتي انتهت بتحرير مدينة عكا (آخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام) على أيدي السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون (الجمعة الموافق 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م).
أولاً: أحوال المسلمين والصليبيين في بلاد الشام بعد الغزو الصليبي
كان المسلمون في بلاد الشام ومصر والعراق متفرقين، تكاد كل مدينة أن تكون دولة مستقلة، وأقام الصليبيون تسعة شهور بعد احتلال أنطاكيا قبل سيرهم إلى بيت المقدس، واستفادوا من الإغارة على المناطق الشمالية في سورية في تأمين الترابط بين الإمارات الصليبية لتستطيع إحداها أن تنجد الأخرى إذا جدَ الجد، وتعقدت الأمور. وتقدم الصليبيون نحو الجنوب، فأسـسوا مملكة بيت المقدس، مستغلين انهيار قوة الدولة الفاطمية في مصر وجنوب الشام، وانحسار قوة الأمراء السلاجقة في حلب ودمشق وحماة والموصل وماردين، وعجزهم عن حماية المناطق الطرفية أو الساحلية في الأناضول والشام، وكان الصراع والتنافس بين الفاطميين في القاهرة، والخلافة العباسية في بغداد، وبعض الأمراء السلاجقة على أشده لفرض نفوذهم على بلاد الشام، ولم يكن في بال أكثرهم فكرة توحيد جهود الإمارات والممالك الإسلامية، والتصدي للخطر الصليبي الداهم، وتحرير بلاد المسلمين.
وكانت الإمارات الصليبية، تعتمد على البحر المتوسط لضمان التموين من أوروبا، وتمتلك عدا مدن السواحل، سلسلة من القلاع الضخمة المبتدئة من ذخيرة في الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية، والكرك، وبيت جبريل، والدروم، وكان خلف هذا الخط الأول توجد القلاع الممتدة من شقيق أرنون إلى صفد والقسطل، وفي الشمال حصون عكا، والكرك، وبارين، ومن ورائها جميعاً المدن الساحلية الكبيرة: أنطاكيا، وطرابلس، وعكا، وصور، والمرقب، وبيروت، ويافا، وعسقلان، وهي أطراف القوى الصليبية من ناحية البحر. ويُقابلها من ناحية البر: مرجعيون، وجسر يعقوب، وبيسان، وطبريا، وامتازت الحدود الصليبية: بأنَّ قلاعها جمعت بين خصائص العمارة الحربية الغربية والشرقية، من حيث اِزدواج الأسوار، وتعدد الأبراج ذات الطابقين، وكلِّ مستلزمات الحامية من ذخيرة، وتموين، ووسائل دينية، وصحية، ومعيشية.
باشر المسلمون في مقاومة الصليبيين، مُنذ اللحظات الأولى لوصولهم، ولكن كانت الكفة الراجحة للصليبيين، الذين طمعوا في ضم حلب ودمشق، وفرضوا عليها الأتاوات، ووصف ابن الأثير هذا الحال بالقول: "… كانت الفرنج قد اتسعت بلادهم، وكثرت أجنادهم، وعظمت هيبتهم، وامتدت إلى بلاد الشام أيديهم، وضعف أهلها عن غارتهم، وكانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وسجستان إلى عريش مصر، لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماة ودمشق… ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجاً يأخذونه منهم ليكفوا أيديهم عنهم…".
ثانياً: بدايات تشكيل الجبهة الإسلامية ومقاومة الخطر الصليبي في العهد السلجوقي
انبعثت المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين، لأول مرة في المشرق الإسلامي من منطقة الجزيرة في شمال العراق، وسُميت الجزيرة لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وكانت أول أمصار المسلمين في المشرق الإسلامي التي اكتوت بنار الخطر الصليبي عندما استولى الصليبيون على الرُّها عام 490 هـ/1097 م، وتأسست فيها أولى الإمارات الصليبية، فأدرك السكان هناك خطر التوغل الصليبي في بلادهم، مما بعث المسلمين على التفكير المستمر في مهاجمة الصليبيين. وكما شهدت الجزيرة في تلك المرحلة، دخول الأتراك السلاجقة إليها، مع ما اشتهروا به من الفروسية والمغامرة، وحماسهم للإسلام، وانتمائهم للمذهب السني، وحُبهم للجهاد، بعكس بعض القوى الإسلامية في الشرق التي خبت جذوة الحماس في نفوسها.
اتخذت فكرة المقاومة الإسلامية مظهرها العملي منذ سنة 491هـ/1098م، حيث قام قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل بجمع ما استطاع من عساكر بقصد منع أنطاكيا من السقوط، ولكنه لم يلبث أن توقف في الطريق، حيث حاصر الرها لمدة ثلاثة أسابيع، وهو ما أعطى الوقت الكافي للصليبيين للسيطرة على أنطاكيا، ورفع الحصار عن الرها حين سمع بسقوط أنطاكيا، وعَبَرَ الفرات إلى الشام، وأقام بمرج دابق، حيث اجتمع مع دقاق بن تتش صاحب دمشق، وظهير الدين طغتكين أتابك دقاق، وجناح الدولة حسين صاحب حمص، وأرسلان تاشي صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق صاحب بيت المقدس، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم في القدوة والكفاية على حد قول ابن الأثير، وانضموا تحت قيادة كربوقا، وسار بهم نحو أنطاكيا، والتي كانت قلعتها لا تزال بيد المسلمين، وشدد هذا التحالف الإسلامي الحصار على الصليبيين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين من طرف القلعة، ومن خارج أسوار المدينة، واضطروا نتيجة الجوع إلى أكل الجيف وأوراق الشجر، ودفعهم لمفاوضة كربوقا، ولكنه رفض طلبهم، وقال لهم: لا تخرجون إلا بالسيف. ولكن الصليبيين أعادوا تجميع قوتهم، وبتشجيع من أحد رجال الدين المسيحي، واسمه بوشلميوا وقصة الحربة المقدسة، جعل الصليبيين يكسرون الحصار الإسلامي.
وبعد وفاة كربوقا، برز في مسيرة المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين من السلاجقة شمس الدين جكرمش صاحب الموصل، وسقمان بن أرتق أمير الأراتقة صاحب ماردين وديار بكر، واستهدفوا التصدي لتقدم الصليبيين شرقاً باتجاه قلب الجزيرة، إذ كان للانتصارات السريعة التي أحرزها الصليبيون، واعتزامهم الاستيلاء على حران الواقعة بين العراق والجزيرة والشام، مستغلين الصراع بين الأمراء المسلمين، وقد خسر المسلمون أمام الجيش الصليبي على نهر البليخ في الجولة الأولى، ولكنهم أعادوا الكرَة على المعتدين، وأبادوا معظم قواتهم، وغَنموا مقادير كبيرة من الأموال والممتلكات، ونتيجة تلك المعركة تم أسر قادة كِبار من الجيش الصليبي، وهم بلدوين وجوسلين. وكانت لمعركة البليخ نتائج مهمة أبرزها: توقف الزحف الصليبي نحو الشرق الإسلامي، وخاصة إلى العراق، وتلاشت الأحلام الصليبية بالسيطرة على حلب، وضمنها إلى أنطاكيا، وفتحت المعركة المجال أمام المسلمين لتحقيق انتصارات أخرى.
وكان من أبرز الانتصارات السلجوقية، ما حققه القائد الإسلامي الكبير قلج أرسلان في آسيا الصغرى، وضربه للجموع الصليبية الإيطالية الجديدة في عام 494هـ/1101م، وتَصدى لهم في معركة مرسيفان في الأناضول، حيث وصلت القوات الصليبية منهكة، واشتبك معهم جيش قلج أرسلان، وفرَّ الفرسان الإيطاليون مخلّفين وراءهم نساءهم ورُهبانهم، وبلغت خسائر الصليبيين أربعة أخماس الجيش، وغنم السلاجقة الكثير من العتاد والأسلحة والمؤن. وكما انتصر قلج ومعه كمشتكين أحمد على الجموع الصليبية الفرنسية بقيادة وليم كونت نيفر في معركة هرقلة الأولى، ومن ثم الانتصار عليهم في معركة قرب قونية (هرقلة الثانية) التي كانت من جموع ألمانية وفرنسية وبافارية، وبلغوا نحو ستين ألفاً.
حَرَمَ موت قلج أرسلان بلاد الشام من إقامة الوحدة، وإكمال المقاومة الإسلامية على نفس الوتيرة، فقد تقلصت قوة السلاجقة، وتقسمت الشام إلى إمارات ضعيفة. ولكن برز من القادة الكبار في المقاومة الإسلامية بعد قلج، شرف الدولة مودود بن التونتكين (501 – 507ه)، إذ قاد حملة ضد الصليبيين بعد تشكيله تحالفاً إسلامياً، وحاصر الرها، ولكن اضطر لفك الحصار أمام ضغط جيش الصليبيين القادم من القدس (دولة السلاجقة، الصلابي، ص 533). كما قاد نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين جيشاً من عشرين ألفاً، وحاصر الرها، ولم يترك الحصار إلا بِصُلحٍ مع الصليبيين تنازلوا فيه عن الأسرى المسلمين الموجودين عندهم، وشَرَطَ عليهم عدم التوجه لمساعدة أمير أنطاكيا في حالة حدوث قتال معه فأجابوه، وهذا دليل على خضوع الصليبين في الجزيرة لمطالب الأمراء المسلمين آنذاك.
ثالثاً: خطوات التوحيد والتحرير في عهد عماد الدين زنكي (ت: 541هـ/ 1146م)
بدأ القائد الإسلامي الكبير عماد الدين زنكي من إقليم الجزيرة وشمال بلاد الشام، محاولاته لتوحيد المنطقة بضم المدن القريبة منه بسبب ضعفها، وتفرقها، وكانت البوازيج ـ الواقعة على طريق الموصل عند مصب الزاب الأسفل ـ أُولى المواقع التي استولى عليها زنكي، وذلك لدى توجهه إلى الموصل عام 521هـ لتولي مهام منصبه، مستهدفاً من وراء ذلك اِتخاذها خط رجعة له لحماية ظهره في حالة تصدي وصي حاكم الموصل لزحفه، ثم استمرَّ في سيره نحو الموصل، وعندما وصل جاولي نبأ تقدمه على رأس قوات حاشدة، يحمل معه منشور السلطان السلجوقي بحكم الموصل؛ أدرك أنْ ليس في طاقته التصدي له، وآثر السلامة، فخرج لاستقباله.
وأما عن حلب، فإنه بفضل ما تتمتَع به المدينة من حصانة عسكرية، وإمكانات اقتصادية وبشرية وسياسية هامة، ومركز إستراتيجي لوقوعها على خطوط المواصلات بين فارس والعراق من جهة، وبين الشام وآسيا الصغرى من جهة أخرى، ثم بين إمارتين صليبيتين، وهما: الرُّها، وأنطاكية، وغدت قاعدة لا يمكن بدونها السيطرة على الجهات الشمالية والوسطى من بلاد الشام في الوقت الذي يمكنها فيه الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة، والفرات، والأناضول، وشمالي بلاد الشام، وأواسطه، مما يُعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد، وتحقيق أهداف حاسمة ضد الصليبيين، ولذلك سعى زنكي إلى ضم حلب بوصفه يملك منشوراً من السلطان السلجوقي بحكم الموصل، والجزيرة، وبلاد الشام، ومهَد لخطواته هذه بإرسال الرسل إليها حتى يشرحوا لسكانها أحقيته في تولي أمورها، ومن ثم غادر الموصل في طريقه إليها، وضمَ في طريقه بزاعة ومنبج، ولما وصل إلى مشارف حلب في شهر جمادى الآخرة عام 522هـ/ حزيران عام 1128م، خرج سكانها لاستقباله آملين ببداية عهد جديد من الأمن والاستقرار، بعدما سئموا من الفوضى التي سادت مدينتهم، فدخل القلعة، وبدأ بتنظيم أمورها، وأقطع أعمالها لأمرائه وأجناده.
وحتى يثبت أقدامه في حلب، ضايق عماد الدين زنكي زعماء حلب المعارضين لحكمه، فقضى على بعضهم، وفرَّ البعض الآخر، وبذلك تحققَت الوحدة بين الموصل وحلب، مرة أخرى، وأدَّى ذلك إلى عزل إمارة الرُّها عن بقية الإمارات الصليبية في الغرب والجنوب، كما توسع بتوحيد الولايات وضم سنجار، والخابور، وحرَّان، وإربل، والرقَّة، وكان قـد بلغ درجة من القوة دفعته إلى ضمِّ قلعة جعبر المطلة على الفرات عملاً بخطته القاضية؛ بألاَّ يبقى وسط بلاده ما هو ملك لغيره.
كان زنكي قد أنهى معظم مشاكله وحروبه الداخلية، فقرر البدء بمهاجمة الإمارات والقلاع الصليبية، مستهدفاً أشدَّها خطراً على كيانه السياسي في الجزيرة والشام، ولم يكن غير حصن الأتارب المجاور هو ذلك الهدف، بسبب ما كان يلحقه من أضرار بفلاحي المنطقة من المسلمين، فاتجه زنكي إلى هذا الحصن، وفرض الحصار عليه، فلما علم صليبيو الشام بذلك حشدوا قواتهم من كل مكان، وشكلوا جيشاً ضخماً اتجَهوا به لقتال زنكي، فاستشار هذا أصحابه وقادته فيما يعمل، فأجمعوا أمرهم على الانسحاب؛ لأن لقاء الصليبيين في بلادهم مجازفة، إلا أنه أجابهم: "إن الفرنج متى رأونا قد عُدنا من بين أيديهم، طمعوا وساروا في إثرنا، وخرَّبوا بلادنا، ولا بد من لقائهم على كل حال". وقد سار بجيشه للقائهم بعيداً عن الأتارب، وجرت بين الطرفين معركة قاسية انتهت بانتصار المسلمين، وقُتِلَ، وأُسِرَ عددٌ كبيرٌ من الصليبيين، ثم ما لبث زنكي أن اتجه إلى الحصن، وفتحه عنوةً، وقتل وأسر معظم أفراد حاميته، ثم أمر بتخريبه كي لا يكون عرضةً لتهديد مستمر من قبل الصليبيين، وتقدَّم من هناك إلى حارم الواقعة على طريق أنطاكيا، وضرب عليها الحصار، فبذل له أهلها نصف دخل بلدهم والتمسوا مهادنته، فأجابهم إلى ذلك، وقفل عائداً إلى حلب.
في عام 529هـ، أُتيحت لزنكي الفرصة ثانية لتحقيق انتصارات جديدة في بلاد الشام، حيث قام بمهاجمة عدد من المواقع الصليبية المحيطة بحلب، والتي كانت تُهددها باستمرار، فضلاً عن كونها الخط الدفاعي الذي يحمي أنطاكيا من هجمات المسلمين، وتمكن من الاستيلاء على: الأتارب، وزردنا، وتل أغدي، ومعرة النعمان، وكفر طاب.
لقد أدت هذه الانتصارات التي حققها زنكي ضد الصليبيين إلى تنبيههم إلى تزايد خطره على ممتلكاتهم في الشام، وإلى ضرورة توجيه ضربة حاسمة إليه، وراحوا يتحينون الفرصة المواتية لإنزال هذه الضربة، وبعد عامين وحينما كان منهمكاً في حصاره لحمص، قاموا بحشد جيش كبير تقدموا به، مسرعين لمباغتة زنكي، والقضاء عليه، وكسب حكام دمشق إلى جانبهم، وعندما سمع بذلك سار للقائهم بعيداً عن حمص كي لا يوقع نفسه بينهم وبين الحُمصيين، ورأى أن خير وسيلة يستدرج بها الصليبيين إليه، وتتيح له في نفس الوقت تولي زمام المبادرة بنفسه، هو أن يظهر عزمه على مهاجمة حصن بَعرين الصليبي القريب، وما إن بدأ زحفه صوب الموقع (بَعرين) حتى تقدم إليه الصليبيون بقيادة كلٍّ من فولك ملك بيت المقدس، وريموند كونت طرابلس، ودارت بين الطرفين معركة شديدة انتهت بانتصار المسلمين، وقُتِلَ، وأُسِرَ عددٌ كبيرٌ من جند العدو، وأمرائه، وقادته، كان ريموند من بينهم.
وأما عن إمارة الرها، فقد كانت من أولى الإمارات التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491هـ/1097م بزعامة بلدوين الأول، والذي استمرَّ في حكم هذه الإمارة حتى سنة 494هـ/1100م، حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة الملك جورفري، ولم تـقتصر أهمية الرَّها في موقعها الاستراتيجي، وكونها خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام، بل لأنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام وآسيا الصغرى والعراق ومنطقة الجزيرة، وكانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها، فأسرع إليها عماد الدين بعد أن دعا لفتحها، فانهالت عليه جموع المتطوعين، فطوق بهم الرها من جهاتها الأربع، وحاول السيطرة عليها بالوسائل السلمية كعرضه للأمان لسكانها، طالباً منهم فتح الأبواب إلا أنهم رفضوا قبول الأمان، فاشتد عليهم حصار الزنكي؛ مستخدماً آلات الحصار الضخمة التي جلبها معه لتدمير الأسوار، وأرسل حينها أمير الرَّها جلوسين طلب النجدة المستعجلة من كافة الإمارات الصليبية، وفي 26 جمادى الآخرة 539هـ/ 30 ديسمبر 1144م، وبعد شهر على الحصار، انهارت بعض أجزاء الحصن إثر الضرب المتمركز الشديد، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة، وقام القس اليعقوبي بإجراءات تسليم الرَها للمسلمين.
استطاع القائد الإسلامي عماد الدين زنكي أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامج التوحيد الإسلامي، والبدء بتحرير بلاد الشام، وأن يُكوِّن لنفسه منزلة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسيٍّ بارع، وعسكريٍّ متمكن، ومسلم واعٍ، أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قِبل الصليبيين، واستطاع أن يوجّه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، والقضاء على عوامل التجزئة والانقسام، وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في جبهة إسلامية موحدة.
كانت تكاليف حقبة الحروب الصَليبية باهظة بمعنى الكلمة، واستنزفت من الطرفين ضحايا وإمكانات كبيرة، ومع ذلك، فإن المخاطر التي شكلها الغزو الصَليبي، شجعت في بناء جبهة المقاومة الإسلامية، وتوحيد الأمة على أيدي بعض الأمراء السلاجقة، ومن ثم على أيدي زنكي ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي. ولا شك، بأن الحروب الصليبية تمثل حلقة من سلسلة طويلة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، سبقتها وتبعتها حلقات على الطريق الطويل، وكانت المقاومة الإسلامية للغزو الصَليبي تعبيراً فذاً عن استمرار المهمة النبوية في نفوس المسلمين وأهل العزائم من أبناء هذه الأمة، وقد صنعت تلك المرحلة مجاهدين على مستوىً عالٍ من القدرة والتأثير، وفهم عقيدة الجهاد وفقه النصر والتمكين وسنن الله في التغيير، وانتشر هؤلاء المجاهدون على كل الجبهات، وقاوموا الغزاة على مدى قرنين من الزمن، فلم يضعفوا، ولم يستكينوا، أو يضعوا السلاح، وكانوا على استعداد في كل لحظة لركوب خيولهم، والانطلاق سراعاً إلى ساحات الوغى، يطلبون الشهادة، ويفيضون بطولة وعزيمة وتضحية وثباتاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.