طوفان الأقصى وزمن التحولات السريعة

عربي بوست
تم النشر: 2023/12/15 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/15 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
جانب من عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة/ رويترز

دخل العالم منذ بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، على أقل تقدير، مرحلة جديدة من عملية "صناعة التاريخ"؛ إذ أضحت العوامل المتحكمة في هذه الأخيرة غير متوقعة، بل أضحت التحولات الاستراتيجية التي يعرفها العالم تتسم بـ"العشوائية"، فصار المتداول على ألسنة المثقفين وهم بصدد تقديم قراءات حول مستقبل التحولات الكبرى في العالم ومواقعها هو: "اللا يقين".

مفهوم اللا يقين الذي شاع بين الباحثين للتعبير عن عجز مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية عن التنبؤ بحقيقة التحولات المتوقعة الحدود بناءً على المتغيرات الراهنة، تطور ليعبر عن عجز هذه العلوم والباحثين فيها عن فهم وإدراك حقيقة هذه المتغيرات الراهنة التي كانت تعد إلى زمن قريب "حمار المحللين" الذي يركبه كل مبتدئ في حقل الدراسات الاستراتيجية.

"اللا يقين" كحالة نفسية عامة تعتري كل المهتمين بصناعة التحولات في العالم، يمكن قراءتها على مستويين اثنين: فمن جهة المهتمين بالإبستمولوجيا ومناهج العلوم، تفسر انتصاراً لطرح القائلين بمحدودية العلوم الاجتماعية، المنافحين عن فكرة أن هذه "الدراسات الاستراتيجية" و"علم المستقبليات" لا تعد إلا تخمينات أو شعوذة. وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال بناء نتائج علمية ما دامت مواضيع الدراسة لا تنفك عن ذوات الدارسين وتشتبك معهم في رهاناتهم السياسية والفكرية. وهو قول له حجيته، ولكنه متحامل على حقل من الدراسات العلمية التي لم تدَّعِ يوماً أنها دراسات تنجيمية بقدر ما أنها قراءة استنباطية لمتغيرات مختلفة واستقراء لنتائجها المحتملة.

ومن جهة ثانية هي تعبير عن حالة استثناء دخلها العالم منذ ثورات الربيع العربي، حيث خرجت من منطق تبعية النتائج المباشرة للأسباب، إلى تشابك معقد بينها، بالإضافة إلى تحررها من أي خيط زمني ناظم، حيث يغيب الرابط المنطقي بين مجموعة من الوقائع والأحداث الهامشية، إن شئنا القول، ونتائجها الضخمة المترتبة عنها. (استشهاد البوعزيزي بتونس، وعيد الشرطة بمصر، نموذجين).

يعد التسارع الزمني أحد السمات المميزة كذلك للتحولات في زمننا الراهن، حيث اتسم العقد الأخير على وجه الخصوص بكثافة في الأحداث، ندر أن شهد العالم مثلها. حيث لم تعد أي مصداقية للمخططات البعيدة المدى، ما دام الواقع لا يقر على حال.

تسارع زمني دخل بنا ما يصطلح عليه بـ"زمن سقوط الأيديولوجيات الكبرى"، وهو زمن ما بعد "نهاية التاريخ" عند فوكوياما الذي بشر بهيمنة الليبرالية كأيديولوجية وحيدة على مستقبل البشر وتاريخ البشرية، وهو أقرب لمفهوم "السيولة" عند باومان الذي يستعمله للتعبير عن ضياع المعنى وتسربه حتى يفقد سماته الأساسية المميزة له. وبالتالي فإن زمن سقوط الأيديولوجيات الكبرى هو زمن سقوط التفاسير الأحادية للعالم، حيث لم يعد باستطاعة فلسفات التاريخ، سواء المادية التاريخية ولا المثالية الألمانية، تقديم قراءات مفسرة لتطور التاريخ، أو مستوعبة له على الأقل.

فوضى المابعديات

منذ الربيع العربي، وبعده زمن الثورة المضاد، ثم كورونا، إلى طوفان الأقصى، أصبح كثير من المهتمين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية نفقاً هو أقرب إلى الشعوذة، تحكمه عبارات منسوجة سلفاً تقدم إجابة سهلة لكل سؤال: "ما بعد X ليس كما قبلها"، وهي عدوى قد يردها البعض إلى دراسات "ما بعد الحداثة" التي سادت في أوروبا والولايات المتحدة بداية القرن. 

سميتها بالفوضى لكونها تجلٍّ فاضح للرغبة في التجاوز، وخضوع لعنف اللحظة الراهنة، والبحث عن الخروج من ضيق اللحظة إلى أفق أرحب، ولو من باب التمني. والشواهد كثيرة كيف كان كل مثقف أو باحث يسقط بشاراته/أماله على زمن ما بعد كورونا حتى انجلت الأزمة على ما هو أعنف منها، واستمرت البشارات.


إن الحاجة في مثل هذا النسق الزمني المتسارع ليست إلى بشارات متسرعة، تصيب أو تخطئ، بقدر ما إن الحاجة إلى تأمل ممتد لا يخضع لضغوط اللحظة، ولا يستسلم لـ"نشوة التحليل" عند ورود أول معلومة، مع إغفال السياق العام وباقي العناصر المكملة للمعلومة. 

هذه الدعوة ليست دعوة للقعود والتفرج ببلادة على مجريات التاريخ وهي تزحف في استسلام مذهول، ولكن هي دعوة للانفتاح على مداخل جديدة للبحث في مسارات "صناعة التاريخ".

ختاماً، إن هذا التأمل في مناهج وأدوات الكتابة التاريخية والاستراتيجية كانت على ضوء الهبة التي دشنتها المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى، هذا الحدث الذي خلخل مجموعة من الموازنات التي أريد لها أن تتسم بطابع الحتمية، لكن هذه الهبة البسيطة في أسبابها كانت عظيمة في نتائجها والتحولات المترتبة عنها. ومنه نحاول أن نحدو بالحدو ونؤسس لتحولات عظيمة بخطوات بسيطة، في العلم والفكر والسياسة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected] 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالكريم ضوبيل
طالب باحث في علم الاجتماع
طالب باحث في علم الاجتماع
تحميل المزيد