في تراب الأرض ينبت الزهر،
بين ركام الحروب تعلو الحقولُ ضياء.
على شواطئ الليل الدامية
تلامس أمواج الصمود فلسطين العزيزة.
في ساحة الصراعات العالمية، تتفاقم الآن التحديات التي تواجه العدالة وحقوق الإنسان في فلسطين، حيث تستمر سلطات "إسرائيل" في احتضان سجل مثير للجدل، مرة أخرى، تهم مرتبطة بسرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين. يتساءل العالم بقلق وتحفظ حيال تلك الممارسات المثيرة للجدل، والتي تستمر في الظهور كظاهرة مستمرة تُلقي بظلالها على سمعة إسرائيل على الساحة الدولية.
إن تكرار هذه الاتهامات يجعل من الضروري فتح نقاش عميق حول الآثار الإنسانية والأخلاقية والقانونية لمثل هذه الأفعال. يتعين علينا أن نتساءل بجدية حول مدى تأثير هذه الممارسات على حقوق الإنسان وسمعة إسرائيل كدولة تلتزم بالمعايير الدولية.
على مر الـ 70 عاماً الماضية، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي العديد من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، ولكن من بين هذه الجرائم كانت هناك جريمة من نوع خاص، طالما أخفيت تحت الأضواء قبل أن تكشف عنها. إنها جريمة سرقة الأعضاء.
كانت السلطات الإسرائيلية تمارس عمليات سرقة للأعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين، وكشفت التقارير وشهادات أطباء إسرائيليين عن هذه الممارسة الإجرامية البشعة التي تتنافى مع قواعد المهنة الطبية وتشكل جريمة ضد الإنسانية. تدير "إسرائيل" أكبر بنك للجلود في العالم، وهو مرفق طبي يخزن الجلود البشرية للاستفادة منها في علاج الحروق والسرطانات الجلدية. تم بناء هذا البنك في عام 1986 بإشراف قطاع الطب العسكري التابع لجيش الاحتلال، الذي يقدم خدماته على مستوى دولي، وكان محط اهتمام دول الغرب.
ويختلف هذا البنك الإسرائيلي عن نظرائه حول العالم، إذ يعتمد مخزونه من الأعضاء الحيوية لاحقاً لاستعماله في معالجة الحروق والسرطانات الجلدية لا يأتي من متبرعين طوعيين فقط. بل تم تسجيل عمليات سرقة جلود من جثث شهداء فلسطينيين، ما يزيد من بشاعة هذه الجريمة.
تظهر الأدلة الواضحة على تورط الإسرائيليين في تجارة هذه الأعضاء المسروقة، حيث يعد الاحتلال الإسرائيلي أكبر سوق للأعضاء في منطقة الشرق الأوسط.
من أين جاءت "إسرائيل" بهذا المخزون الضخم من الجلود البشرية؟ يعتبر بنك الجلد الإسرائيلي الأكبر في العالم، متفوقاً على بنك الجلد الأمريكي الذي أُنشئ قبله بـ40 عاماً، وهذا يأتي رغم أن عدد سكان إسرائيل يقل بكثير عن عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية.
يؤكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية، أنس أبو عرقوب، أن سرقة الأعضاء من جثث فلسطينيين ليست مجرد شكوك، حيث يشير إلى أن حتى الإعلام الإسرائيلي يعترف بأنها عملية انتزاع تتم دون معرفة ذوي الشهداء.
الاحتياطي الهائل للجلد البشري، الذي يعادل 170 متراً مربعاً، المحفوظ داخل بنك الجلد الإسرائيلي يثبت صحة رؤية أبو عرقوب. وهذا الرقم يبدو غير منطقي، خاصة أن "إسرائيل" تحتل المرتبة الثالثة في رفض سكانها التبرع بالأعضاء، ويُعزى ذلك إلى المعتقدات الدينية اليهودية.
في عام 2001، كشف الصحفي السويدي المحقق دونالد بوستروم عن جريمة سرقة الأعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين والتجارة بها من قبل جهات إسرائيلية، وهو الكشف الذي شكّل نقطة تحول في كشف هذه الجريمة البشعة أمام الرأي العام الدولي. نشر بوستروم تحقيقاً آخر في عام 2009 يؤكد هذه الممارسات الفاحشة، وفتح النقاب عن تفاصيل صادمة تظهر تورط السلطات الإسرائيلية في سرقة الأعضاء والتجارة بها.
في تلك الفترة، أطلقت وزارة الصحة الإسرائيلية حملة قومية لتشجيع التبرع بالأعضاء عام 1992، ورغم ذلك، استمرت الفجوة بين الطلب والعرض. تزامناً مع تلك الحملة، بدأت حالات اختفاء غامضة للشبان الفلسطينيين، ليعودوا بعدها في نعوش مغلقة، وكانت السلطات الإسرائيلية تفرض على أهاليهم دفنهم في الليل دون جنائز.
بوستروم تواصل مع عائلات الشهداء التي أكدت سرقة أعضاء أبنائها قبل قتلهم. على سبيل المثال، اعتُقل بلال أحمد غنان، البالغ من العمر 19 عاماً، عام 1992، وعادت جثته بلا أعضاء داخلية. لم تنكر السلطات الطبية الإسرائيلية الاعتداء على جثته، وقال مدير معهد الطب الشرعي الإسرائيلي في ذلك الوقت إن عائلته يمكن أن تكون على حق. ومع ذلك، لم تتلق عائلته أي تفسير أو اعتذار عن هذه الجريمة البشعة.
يبدو أن المعلومات التي قدمتها تشير إلى اتهامات بشأن سرقة أعضاء من جثث فلسطينيين من قبل معهد الطب الشرعي الإسرائيلي. في فيلم وثائقي عام 2009، أدلى المدير السابق للمعهد يهودا هيس بشهادات تفيد بأنه تم أخذ أعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين دون الحصول على إذن من أسرهم.
في إحدى الدراسات حول التعامل مع أجساد الفلسطينيين في مركز "أبو كبير" للطب الشرعي في "تل أبيب"، أكدت الباحثة الأنثربولوجية مئيره فايس أنها شهدت على استخراج أعضاء من جثث الفلسطينيين، حيث تم أخذ القرنيات والجلد وصمامات القلب والعظام. وأشارت إلى أن هذه الأعضاء تستخدم في مختبرات البحث الطبي والتدريب في الجامعات الإسرائيلية.مضيفةً أن هذه العمليات كانت غير رسمية بشكل كبير، دون أخذ إذن من أسر الشهداء. وتشير الباحثة فايس إلى أنهم يقومون بتعويض الأعضاء المستخرجة بأخرى اصطناعية لتجنب كشف الغش، ما يجعل غياب تلك الأعضاء غير ملحوظ لدى غير المتخصصين.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الاتهامات تتعلق بفترة زمنية خاصة، خصوصاً خلال الانتفاضة الأولى، حيث أذنت السلطات الإسرائيلية فعلياً للمعهد بتشريح جثث الأسرى الفلسطينيين واستخدام الأعضاء في أغراض بحثية.
تُشير تقارير إعلامية إلى أن "إسرائيل" قد تكون أحد أكبر أسواق الاتجار في الأعضاء البشرية في العالم، وتعد الأكبر في منطقة الشرق الأوسط. كان هناك تسليط للضوء على تورط "الدولة العبرية" في قتل الفلسطينيين بهدف سرقة أعضائهم واستغلالها بشكل غير قانوني، والمتاجرة بها في إطار شبكة دولية غير قانونية.
في عام 2009، قام مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) بالقبض على ليفي إسحاق روزنباوم، مستوطن إسرائيلي، وكشفت التحقيقات أنه كان يشغل دور الوسيط في عمليات بيع الأعضاء في الولايات المتحدة، والتي يُفترض أن تخدم مصلحة خلية إجرامية تديرها شخصيات دينية وسياسية وحكومية إسرائيلية.
يُشير الصحفي دونالد بوستروم إلى احتمال ارتباط هذه الشبكة بعمليات سرقة أعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين في "إسرائيل". ويُذكر أن نصف الكلى المزروعة للإسرائيليين منذ بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تم شراؤها بشكل غير قانوني، وتشير بعض التقارير إلى أن السلطات الصحية الإسرائيلية كانت على علم بذلك دون اتخاذ إجراءات مناسبة.
علاوةً على ذلك، أقرت "إسرائيل" في تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" عام 2016 بفقدانها العشرات من جثث الشهداء الفلسطينيين. ونقلت الصحيفة تصريحات من مصادر في الجهات القضائية والأمنية الإسرائيلية تفيد بفقدان 121 جثة لشهداء تحتجزهم سلطات الاحتلال منذ التسعينيات.
بعد انكشاف فضيحة سرقة الأعضاء في عام 2009، حاولت الحكومة الإسرائيلية التنصل من الاتهامات الموجهة ضدها. في بيان أصدرته المتحدثة باسم وزارة الصحة الإسرائيلية آنذاك، إيناف شيمرون غرينبويم، قيل إن "الممارسة التي أثيرت حولها التحقيقات هي قصة قديمة انتهت منذ سنوات".
ومع ذلك، تظل الشكوك حائرة حيال استمرار هذه الممارسات غير الأخلاقية التي تُعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان. يظهر ذلك من خلال استمرار السلطات الإسرائيلية في احتجاز العشرات من جثث الشهداء الفلسطينيين، ويُبرر ذلك بشكل مثير للجدل بأنه إجراءٌ عقابي.
ووفقاً لرئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة الأسرى والمحررين، عبد الناصر فروانة، فإن "إسرائيل" لا تزال تُحتجز أكثر من 370 جثماناً لشهداء فلسطينيين وعرب، استشهدوا في ظروف مختلفة منذ السبعينيات وحتى عام 2023.
وتكمل "إسرائيل" سياساتها غير القانونية، حيث خططت لتأسيس أكبر "بنك جلود" في العالم، باستغلالها للفلسطينيين وسرقة أنسجتهم بطرق غير شرعية. كما أظهرت الأنباء أن "إسرائيل" تُخزن أكبر كمية ممكنة من الأنسجة والجلود والأعضاء البشرية من أجساد الشهداء، ما يتعارض مع قوانين التبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية في العالم، التي تشدد على أهمية الحصول على موافقة خطية من عائلة الفرد المتوفى، وفي حالة عدم الموافقة، يُمنع بشكل صارم إزالة أي عضو.
في ختام هذا الاستكشاف لمزاعم سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين، يظهر أن التساؤلات المحيطة بهذه الممارسات غير الأخلاقية لا تزال تحتفظ بقوتها وتطرح تحديات هامة أمام "إسرائيل". يتساءل العالم إلى أي مدى يمكن للدولة الإسرائيلية الاستمرار في التبرير والتملص من الاتهامات، خاصةً مع استمرار الاحتجاز غير المبرر لجثث الشهداء الفلسطينيين.
هذا النقاش الذي يلامس ألم الظروف وتحدياتها، نجد أنفسنا مدعوين إلى العمل الحازم والوقوف بصمود لتحقيق العدالة واستعادة الحقوق المنهوبة. فالحديث وحده لا يكفي، بل يجب أن يتبعه عمل فعّال وتحرك حاسم، قد يكون الاستمرار في الكفاح واستخدام جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الوقوف في وجه التحديات بكل قوة وصلابة، ضرورياً لتحقيق النصر واستعادة الكرامة. إن الطريق لاسترداد الحقوق يمر عبر ميدان العمل والتحدي، حيث تتجلى قوة الإرادة والتصميم في تحقيق العدالة والسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.