جنباً إلى جنب مع ارتكاب الجيش الإسرائيلي مجازر مروعة على مدار الساعة في قطاع غزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، قام الطيران الإسرائيلي بتدمير الأوابد التاريخية بغرض فرض الرواية الإسرائيلية المزيفة. وفي هذا السياق نشير إلى أن للهوية الوطنية الفلسطينية ركائز أساسية تشكلت عبر تاريخ فلسطين الطويل؛ وفي مقدمتها اللغة والتاريخ والمصير المشترك والنشاط الاقتصادي والعمراني والإرث الحضاري.
استهداف ممنهج
لم يكن استهداف إسرائيل لآثار فلسطين وإرثها الحضاري في قطاع غزة والضفة بما فيها القدس والداخل الفلسطيني عشوائياً، بل كان ممنهجاً وبدراية كاملة لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية، عبر تغييب الطابع العمراني للشعب الفلسطيني وترسيخ الشعارات الصهيونية؛ وخاصة شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ومن المعروف لدى المتابعين لفن العمارة، أن هذا الفن في فلسطين يحمل في طياته الطابع العربي في المقام الأول، شأنه في ذلك شأن فن الزخرفة في بلاد الشام، هذا الطابع الذي انتشر بسرعة كبيرة منذ صدر الإسلام، إذ تشير الدراسات التاريخية إلى استقلال فن الزخرفة في فلسطين عن أي طابع آخر وفي شكل خاص عن الطابع البيزنطي، وتمتعه بمميزات خاصة.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى وجود عدد كبير من المفارقات بين فن الزخرفة الرومانية والبيزنطية في بلاد الشام، لكن الثابت أن الذي قام بعملية البناء والزخرفة هم مواطنو تلك البلاد من العرب. فإذا اتخذت الزخرفة والعمارة الإسلامية في فلسطين في ما بعد الطابع المحلي، فإن ذلك من الأمور الأساسية، ويتوافق مع مبدأ الاستمرارية الذي يحققه السكان الأصليون الذين انضووا تحت الثقافة الجديدة، سواء أسلموا أم بقوا على دينهم. وتكوَّن الفن الاسلامي بروح جديدة أشبعت بالثقافة الجديدة التي توسعت حدودها وعلومها وفلسفتها، فكان الجمال الصفة الملازمة لفن العمارة في فلسطين. ولكن العمارة العربية الإسلامية في فلسطين أصابها كثير من الأزمات التي أضعفت وجودها أو تركت آثار الغرباء فيها؛ بيد أن الشواهد الماثلة للعيان في فلسطين حتى يومنا هذا، وعلى رأسها جماليات فن العمارة والزخرفة في منشآت الحرم القدسي الشريف، جعلت للزخرفة في فلسطين مميزات وطابعاً خاصاً.
بين الأمن والجمال
تشير الدراسات التاريخية إلى أن فن العمارة والزخرفة العربية والإسلامية في فلسطين ارتكز في شكل أساسي إلى مبدأ الأمن للشعب وهو أحد مقومات الهوية الفلسطينية، فضلاً عن الجمال اللافت للناظرين، وقد تحقق الأمن في البناء من خلال استخدام مواد صامدة في وجه عوامل الطبيعة ونوائب الزمن والاحتلالات، في حين تحقق الجمال من خلال استخدام الزخارف من الرقش العربي اللين أو الهندسي، ناهيك عن استخدام الخط العربي. وازدانت عمارة فلسطين بزينة فريدة تنفرد بها عن غيرها من الدول في جهات الأرض الأربع، خلال استخدام الزخارف والرسوم الملونة التي صنعت منها بفصوص الفسيفساء في قبة الصخرة والمسجد الأقصى وقصر هشام في أريحا على سبيل المثال لا الحصر. وتشير دراسات إلى أن فن العمارة في فلسطين لم يقتصر على بناء المساجد التي نرى شواهدها في القدس وحيفا ونابلس والرملة ممثلة بالمئذنة البيضاء التي ما زالت حاضرة حتى الآن.
وكذلك لم تقتصر عملية فن العمارة والجمال في فلسطين على القصور التي ما زالت شاهداً عليها مثل: قصر المفجر وقصور البادية الرائعة والآخذة في جمالها ورونقها، بل ثمة حانات وسبل وأسواق وحمامات ومدارس وأضرحة. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الخانات التي تعتبر فنادق يؤوي إليها المسافرون من تجار وزوار، تخصَّص الطبقات السفلى منها للقوافل التجارية والبضائع، أما الطبقات العليا فمخصصة للنوم والإقامة، وتنتشر خارج الخانات السبل والحوانيت، ومن أشهر الخانات في فلسطين خان التجار في نابلس. ومن أشهر السبل سبيل السلطان قايتباي في القدس الغني بزخرفته وقبته الرفيعة الدقة والجمال، وفي عكا على الساحل الفلسطيني تنتشر سبل منها سبيل الطاسات؛ ويعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر. والسبل هي أماكن لتقديم الماء لمحتاجه، وتكون مستقلة أو ملحقة ببناء، ومن الشواهد على فن العمارة في فلسطين وما تحتويه من جمال، الحمامات العامة التي تنتشر في كل المدن الفلسطينية، وتتألف من أقسام تقليدية، القسم البارد والقسم الحار والقسم الدافئ.
فشل أهداف الاحتلال
لم يغِب فن العمارة في فلسطين عن مدارسها المنتشرة في كل مكان، فأعطاها بذلك جمالاً خارقاً تم رسمه باستخدام أدوات بسيطة، ومن ثم إنجاز الزخرفة المناسبة لإضفاء طابع خاص عليها، ومن أبرز المدارس الفلسطينية المدرسة التنكرية في القدس، وهي من آيات الجمال المعماري والزخرفي في فلسطين على الإطلاق. وكذلك المدرسة الأشرفية والمدرسة الأحمدية، واستوعبت المدارس النشاطات الثقافية والتعليمية وتسابق القضاة والولاة في إنشائها. ومن خصائص فن العمارة والجمال في فلسطين انتشار المزارات والمقامات والأضرحة والخوانق والرباطات التي أنشئت في شكل رئيسي إبان فترة العهد المملوكي لفلسطين، فضلاً عن ذلك كانت القلاع والأبراج في فلسطين شواهد ماثلة وحاضرة بقوة ودالة على فن البناء والزخرفة وجمالياته، حيث انتشرت تلك القلاع والأبراج في نواحي فلسطين وجهاتها الأربع. ومنذ إنشائها في الخامس عشر من أيار/مايو من عام 1948، حاولت إسرائيل تهويد فن العمارة، الذي طبع فلسطين بطابع خاص بها خلال قرون طويلة، لتصبح دالة على الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني؛ في وقت تنص فيه الاتفاقات الدولية على حماية المباني التاريخية في حال الاحتلال، تستمر دولة الاحتلال الإسرائيلي في الاعتداء على الأبنية وزخارفها التاريخية في فلسطين، بغرض تهويد المكان والزمان وتضرب بعرض الحائط القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية، مدعومة بسيف الفيتو الأمريكي الجاهز لإسقاط أي مشروع قرار يدين السياسات الإسرائيلية التهويدية.
ولهذا يجب الاستمرار في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية إلى طمس الهوية الوطنية الفلسطينية عبر تزوير آثار فلسطين وتدمير أوابدها التاريخية، بغرض فرض الرواية الصهيونية المدعومة من الغرب الاستعماري، لكن تشبث الشعب الفلسطيني بوطنه أسقط وأفشل كل أهداف الاحتلال ومخططاته .
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.