عندما قرر شاعر قصيدة "الشهيد" عبد الرحيم محمود المشاركة في ثورة فلسطين ضد الانتداب البريطاني عام 1936، كان مقتنعاً تماماً بجهوزيته، بل كان مستعداً للاستشهاد من أجل قضيته، وهذا الاستعداد أشعل فيه جذوة الأمل وحرّك دمه للنصر ومحاربة العدو مهما كان عتاده ومهما كانت تجهيزاته، لقد تأثر بقضية بلاده وعبر في شعره عن تجربة مريرة للشعب الفلسطيني المحتل.
وكأن المشهد يتراءى لي مع هؤلاء المقاتلين الأشاوس في حركة حماس وكتائب عز الدين القسام وجميع أفرع المقاومة الفلسطينية، هذا المشهد ليس الأول ولا الثاني؛ فمشاهد الأبطال تتكرر في هذا البلد الصغير حجماً الكبير منزلةً ومكانةً بين شعوب الأرض.
يعلمون عدوهم جيداً، ويعرفون ما سيقوم به من فضائع، لكنهم صامدون، وتدل مقاومتهم بطرقها المختلفة، حجارة، كمين، تسلل، انفجار، حرب بالمدافع وغيرها على تمرسهم وغياب هامش الخوف من قلوبهم، ومعرفة العدو – كما يعلم خبراء الحروب – أهم مسلك لفيض تأثير، وغزير فاعلية عليه.
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
لعل الحالة النفسية تلعب دوراً لتقمص السلوك في موقف معين، كما قد يتطلب المحارب عزيمة تدفعه للمضي قدماً دون خوف أو تردد، وكما يحلو لأهل غزة التخطيط بمتسع والتصويب بمقتل، والمقتل هنا لا يعني بالضرورة الموت، بل كما فعلت المقاومة الفلسطينية في الحرب الدائرة حالياً بينها وبين إسرائيل (وسيدنا إسرائيل بريء منها) بالتخطيط الاستخباراتي وخرائط للبلدات والقواعد العسكرية، مما اعتبرتها إسرائيل كنوزاً استخباراتية، فأنت قد أصبت عدوك بمقتل، هذا البيت الشعري يحكي كل شيء عن عاطفة هذا الشاعر الفلسطيني الغيور وإحساسه الحي، والصورة تتراءى أمام أعين العالم ويتحقق بيت الشعر ليبني طوقاً آمناً للمدافعين عن الأقصى وعن فلسطين، وليحثهم على المضي قدماً للدفاع عن الأرض وعن الإنسان وعن الكرامة الفلسطينية والعربية عموماً، الصورة مختلفة في الغرب، لكن لا بأس ستدرك الشعوب يوماً أهمية أن تحمل روحك على يديك وتنبري راجلاً أمام تلك الجحافل والجيوش الجرارة لبني صهيون في سبيل نصرة الحق، واسترداد ما تم اغتصابه وسلبه على مرأى من العالم.
يتحدث شاعرنا عنا حين نمعن في التمسك بقضية ما، أو موقف نؤيده باستكانة وحِدّة قد تصل إلى الفظاظة، نعم هكذا هي الأرض، وهكذا يجب أن نتمسك بحقوقنا، الحقوق كحقوق، وليس كردة فعل أو إثابة نفس مغلوبة، وفعل مهزوم، والصورة البصرية والموضوعية لبيت الشعر توحي أن هناك تلاحماً في البلاغة الشعرية، وهو ما أتقنه الشاعر في مضمون البيت، ويعبر عن قراره الشجاع التضحية بالروح في وجه المعتدي الغاشم، ويعكس مشاعر القهر والتصميم.
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العِدى
وبعد أن يكمل الفلسطيني جاهزيته للتصدي الذي قد يشكل تضحية بالنفس في سبيل إنهاء الظلم والجبروت عليه أن يدرك ما ينتظره، عليه أن ينتظر شيئين لا ثالث لهما، إما النصر في معركة الدنيا أو النصر في معركة الآخرة، وكلاهما غَلَبة ونصر؛ فمنذ الانتداب البريطاني على فلسطين لم يرَ هذا البلد العربي المسلم إلا تنكيلاً وهضماً للحقوق، لأكثر من 75 عاماً عاش المواطن هناك بين كر وفر، لم تهنأ عينه، ولم يسترِح قلبه، ولم تهدأ خطواته.
ومما حدث أثناء النكبة التي خرج على إثرها الفلسطينيون من بيوتهم مرغمين من جيش الاحتلال، منذ الاستيلاء على منازلهم عام 1848 وهم يبحثون عن أرضهم المغتصبة، ولن تستريح قلوبهم ولن تهدأ نفوسهم إلا بعد جنيِهم الحياة التي يتطلعون لها، بالرجوع إلى ديارهم والنيل من عدوهم المغتصب.
وأشعر الآن "بعد طوفان الأقصى" أن الفلسطيني يعيش تحدياً شرساً، خصوصاً أن قدرته على الاستشهاد تساوي قدرته لطلب الحياة؛ فهو يرغب في الحياة ويود العيش بكرامته على أرضه، وكأن حال لسانه يقول: "لا فرق إما العيش بكرامتي أو الموت لا فرق أبداً"، استمد هذه القدرة من استبسال قوى الاحتلال في التضييق على أبناء البلاد، خصوصاً في الماء والكهرباء والغذاء وفي مقدساتهم، وطلباته المشروعة؛ فإما حياة تسرنا وتسر الأصحاب والأهل والبلاد، أو موت يغيظ أعداءنا، يغيظه لأنه يعلم قيمة الشهادة عندنا، ويغيظه أكثر حينما يشاهدنا نبتسم ونحن موتى.
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
يستمد الشعب الفلسطيني قدرته على طلب الشهادة من قهر هذا المحتل البغيض، ومن إصراره بقيمه، وإيمانه بمبادئه في الدفاع عن أرضه؛ فاعتبر الموت شرفاً في مقابل الذل والسكينة، ونيل الشهادة في سبيل الدفاع عن الكرامة والعزة والمقدسات هبة من الله لا تقدر بثمن، الإقدام والإصرار وعدم الخوف أو الارتباك أداة مهمة لإظهار القوة والصمود أمام الظلم والاستبداد، وهذا ما نشهده مع كل مقاومة، ومع كل نزال يهتز فيه عرش الطغاة؛ فيثورون ويزمجرون ويتواطؤون، ويخططون ومن ثم يفاوضون.
ونفس الفلسطيني لها غايتان، التضحية بالحياة ونيل حقوقه على أرضه السليبة، ولأنها نفس شريفة فهي لا ترتضي الخنوع والاستسلام، وكيف ترضى دون التفكير في المعيشة ومكان المعيشة وفي الحقوق المهضومة؟. الشرفاء لهم طبع مختلف عن غيرهم، تشكل عندهم الحرية والاستقلالية والعدل قيماً أساسية لا تنازل عنها، والمقاومة تفضي إلى هذه القيم، قمع الآخر الصهيوني علمهم أن لا هوادة معهم، وعليهم تحمل الثبات المرتكز على الحق في وجه الغصة والعنف والسطوة المسلحة، وكما قال الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر: "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
هذه مقولة مأثورة عنه، وقد أثبتت حقيقتها مع الصهاينة، والغمة التي تجثم على صدورنا منذ ولادتنا لا بد لها من نهاية، ونهايتها على أيدي المقاومة المسلحة ولن تجدي المفاوضات السلمية أو تتقدم قيد أنملة، وكما قال شاعرنا:
وما العيش لا عِشتَ إن لم أكن
مخَوفَ الجِنابِ، حرام الحِمى
حفظ المهابة وبيان القوة سعيُ الشاعر، وجميع فصائل المقاومة الفسطينية في نضالهم ضد عدوهم وعدو الأمة الإسلامية، فالحياة البيولوجية العادية والعيش تحت الذل والمهانة ليست عيشاً حقيقياً، بل هو استعباد وعجز، وحديث الشاعر هنا لا يختلف عن القول القرآني في الإعداد للعدو ليخاف ويرتعد، ويحسب الحسابات الثقيلة قبل الخوض في أي مواجهة.
لقد خيب المفاوضون مع الكيان الصهيوني جميع الشعوب، وقللوا من هيبة القضية وجلالها، ورسموا بمصالحهم الضيقة طرقاً ملتوية وأحاديث كاذبة للشعب، ليأخذ منهم مأمنه وليصدقهم في معركتهم الذود عن حياض الوطن وهم عنه براء.
يقول شاعرنا المناضل:
إذا قلتُ أصغى لي العالمون
ودوّى مقالي بين الورى
لذا كان لا بد من حراس جدد على الساحة الفلسطينية، حراس شرفاء تؤمهم مبادئهم، وتنهض بهم أحقيتهم، وتتحدث عنهم سيرهم، ويثق بهم غصن الزيتون، والمسجد الأقصى والتراب الغالي. ثم تتواصل قصيدة "الشهيد"، ليرى أن الشهادة هي المبتغى دون نيل حقه السليب، قصيدة تُبلِّل الأوراق بالدم النازف من كل جارحة به لتروي النخوة، والشهامة، والإباء، والاعتزاز، والأنَفَة والهيبة العربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.