كيف يمكن للتعنتر أن يطغى في عالم متحضر؟ كيف يمكن للقوة أن تُستعرض بهمجية على الشعوب الضعيفة؟ وكيف يمكن للثقة أن تُبنى بعد كل ما رأته الأنظمة سواء العربية أو غيرها من أمريكا الدولة الراعية للسلام في العالم؟ التي من المفترض أن تكون منصفة وعادلة.
أسئلة كثيرة بعد الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، الذي يتيح لإسرائيل مواصلة الحرب لقتل البشرية دون تمييز، وتدمير الأخضر واليابس، ومحو التحضر ومؤسسات المجتمع الحضرية في غزة، محو الحياة بشكلها ومضمونها.
هل يصل الأمر بالساسة الأمريكيين إلى الخوف من المضي قدماً لتأنيب إسرائيل؟ الخوف من الاغتيال مثلاً؟ أليست أمريكا هي راعية السلام في العالم؟ أليست هي التي تقدم النماذج المثلى لأخذ الحقوق ومناصرة الضعيف وصاحبة الإنصاف والعدل؟ أليست هي من يراقب حقوق الإنسان في العالم من خلال منظمة هيومن رايتس ووتش؟ أم هي ادعاءات تجلب السمعة والمصالح المختلفة؟
كيف يحق لها من اليوم التحدث عن حقوق الإنسان وقد ارتضت تدميرها في غزة بدخولها في حرب غير متكافئة، كيف للدول الست العظمى الأخريات التورط أيضاً في هذا الأمر؟
هذا الحديث يطغى عليه التكبر والرعونة، تصرفات قلما توصف بالهمجية والفوضى، ففي حين تتفق الأمم على شيء يتنصل منه أصحاب القوة وأصحاب الفيتو، أشعر أن عملهم مع الأمم إنما هو استعراض للقوة والهيمنة، وفي ودهم لو استطاعوا إلغاء هذه المنظمة لفعلوا.
ليس لأمريكا والدول الست الكبرى الأخرى إركاع الشعوب عوضاً عن خلق التوازن المطلوب بين الأمم؛ فهو المبتغى وهو المؤمّل منها، وهذا ما تنتظره الشعوب المظلومة لا أن تسمي أمريكا ومن ناصرها المقاومة إرهاباً.
هذا ما اتضح من ردة فعل الولايات المتحدة الأمريكية إزاء خبر هجوم المقاومة على إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي، كان موقفها شنيعاً وقاسياً بما فيه الكفاية على المقاومة الفلسطينية تبعتها حليفاتها من دول أوروبا كألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وغيرها؛ حيث وُضعت ديمقراطية هذه الدول على المحك، لأنهم لم ينظروا إلى التضييق المتعمد وإغلاق غزة ومحاصرتها من كافة الجوانب، بل وفي كافة أنحاء فلسطين، بل هي نظرة قاصرة على المقاومة كإرهاب، ونرى كيف خرجت الشعوب الحرة في أغلب دول العالم لتؤازرهم وتُسقِط أصحاب المزاعم والأحاديث الملفقة الكاذبة، إلا أن هذه الدول ما زالت تزمجر وتزبد وتتنصل من المسؤولية الإنسانية، لن تجد أمريكا من يساندها أو يقف معها من الدول طالما كان نهجها مناوئاً للإنسانية وضد رد الحقوق لأصحابها، وما دول "بريكس" إلا نتيجة تلك الهيمنة، فأراد به العالم التخلص من سيطرة الدولار الذي تتلاعب به أمريكا كيف شاءت، الاستناد إلى الحق كالاستناد إلى جدار صلد قوي لا يمكن اختراقه.
وفي حين تنظر المجتمعات الحرة إلى تصريحات الساسة الأمريكان وغلوّها وتجمد تفكيرها نحو مساعدة إسرائيل مغمضة العينين، يتبادر في أذهان الكثير أهمية تحطيم مقولاتهم حول الإرهاب، وعلينا من اليوم فهم هذه المقولات والتوصيف ووضعه في الميزان علَّنا ندرك أن من يقال عنهم إنهم إرهابيون هم في الحقيقة أصحاب الحق، ويدافعون عن حقوقهم وأوطانهم، بينما من يتشدق بالدفاع عن نفسه كإسرائيل هو المعتدي، ومن اغتصب الأرض وضيّق على المواطنين في أرضهم وأباح القتل والتدمير كما هو حادث في كثير من بقاع العالم، وما فلسطين (صاحبة الحق) وإسرائيل (المغتصبة) إلا مثال على ذلك.
ما يثير هذه القضية هو أن معظم الدول التي سكتت وسرطت ريقها هي دول متواطئة ولا شك، والدول التي تجاهر من خلال الكلمات وهو أضعف الإيمان لتصف أمريكا بالمخطئة في مناصرة القتل، ويجب عليها محاسبة إسرائيل، ووقف إطلاق النار على المنازل ودور العبادة والمستشفيات والمدارس والمؤسسات المدنية الأخرى، جعل البقية الباقية على أحسن تقدير دولاً تملك كلمتها وبعض الرأي.
أمريكا شريكة، بل هي أساس كل ما تفعل إسرائيل بل هي إسرائيل مصغرة؛ لأنها في حقيقتها، أي إسرائيل كدولة، واهنة ضعيفة غير قادرة على شيء بسبب توترها وعدم تحكيم العقل فيما تفعل من كذب وتلفيق ودمار غير مبرر ويخرج عن أخلاقيات الحروب. تنكيل بالأسرى في مقابل معاملة نظيفة أدى إلى شكر وتفانٍ من الآسرين في غزة غيّر الصورة التي رسمها الساسة في عقول مواطنيهم.
على إسرائيل وغيرها التي تقوم بإرهاب العالم والشعوب المسالمة التي همّها التنمية والتطوير والعيش بسلام أن تهتم بالجانب الإنساني والتعامل مع الأحداث بمسؤوليتها لا بمنسوبيتها، ولا تأخذ الأمر من باب الانتقام من الجميع، هناك من قضى نحبه وهو لا يعلم شيئاً عن حركة حماس، وهناك من أراد العيش منهم بطريقة مختلفة، وأطفال يتواعدون غداً بتغيير ميزان القوى في لعبتهم التي يلعبونها في قراهم. هؤلاء قضوا نحبهم وهم بعيدون عن مسرح المقاومة.
لقد قضيتم على كل حبل قد يربط ذاكرة الأجيال بحب أمريكا أو حتى دول الغرب المشاركة الأخرى، وستحتاجون لسنوات طويلة حتى تعود تلك الشعوب للنظر إليكم كدول تحضر وديمقراطية وكدول مخلصة من الديكتاتوريات المحلية.
استخدام حق النقض "الفيتو" ضد قرار وقف إطلاق النار في غزة من أمريكا قوبل باستنكار وشجب شديدين من دول العالم الحر، والحقيقة عندما أقول شجب واستنكار يصيبني الفزع الشديد، لكنه أمر مهم عندما لا يعجبك شيء أن تقول هذا على غير مقاسي ثم تلبسه وتسكت، لأن من يلبسك إياه صاغراً أقوى منك بمراحل فلكية وليس بيدك من الأمر شيء.
نحن نلوم أمريكا بجلها ودقها، نلوم صاحبة اليد الطولى التي تحب إسرائيل بمنأى عن العدل والإنصاف، بمنأى عن الديمقراطية، التي تحب إسرائيل بديكتاتورية حديثة تركب معها موجة القتل والدمار وتحاور جيرانها بعد استعراض قوتها في الجو والبحر وفي المعدات والأسلحة المدمرة التي تستخدم لأول مرة، تناقشهم بنفس النَفَس المتعالي المتزمت، الخائف من اللوبي الصهيوني- الأمريكي.
مع كل هذه المشكلات التي تتعرض لها المنطقة العربية؛ جراء هذا الاحتلال الغاشم نستغرب هذا التمسك الصهيوني بهذا المكان الصغير وهذه الدولة الغريبة النابتة وسط محيط عربي كبير، بينما توجد لديهم أرض شاسعة بحكم ذاتي في روسيا وهي بيروبيجان، ولكن يذهب عنا هذا الاستغراب حينما يقول لنا الأمريكان: من المهم وجود هذه الدولة في هذا المكان للدفاع عن مصالحها، فما هي هذه المصالح التي تجعل أمريكا تفرض وجودها لدرجة ترويع وإرهاب الآمنين من أبناء هذه الأرض العزيزة على المسلمين؟، بل تستأصلهم وتبيدهم، ونستغرب أكثر حينما تتقلص هذه المصالح مع غضب الشارع العربي واستنكار معظم الحكومات العربية، بينما يصبح التمسك بالدولة كبيراً وعميقاً رغم خسارة بعض الشركات الأمريكية الإسرائيلية العالمية المليارات، أم هو كيان وجودي بعيد عن المصالح الاقتصادية والعسكرية الأمريكية في المنطقة؟
بعيداً عن كل هذا، هناك حقيقة ظاهرة ولا يمكن طمسها بعد كل صراع، وخصوصاً "طوفان الأقصى"، هو أن أتباع دين الإسلام في ازدياد، وأن أعداد المؤيدين للقضية الفلسطينية في تعاظم، وستسقط الحِيَل الغربية، والتفسيرات الفضائية التي لا نجيدها، لكننا نفهمها جيداً ونستوعب مضامينها، ربما نغض البصر في سبيل أن ننهض من سباتنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.