الموتُ يهذِّب، الموتُ يضبط البوصلة، الموت ينبِّه العقل إلى حقيقة الدنيا، الموتُ يجعلك لا تُبالي بالهموم، الموتُ يخفض من وتيرة العصر الذي جعل الجميع يدُور في ساقية بلا توقف، الموت يختبر المبادئ والقيم، الموت يختبر إنسانيتك.
الموت هو الموت لم يتغير، وإنما جنس البشر هم مَن تغيروا وتغيَّرت علاقتهم بالموت، تآكلت إنسانيتهم أثناء ركضهم خلف مقومات عالمنا المادي، وتلاشت أخلاقهم حتى صارت مجرد جمل منمَّقة من الخارج؛ لكنها جوفاء لا تحمل عمقاً ولا معنى.
سالت المبادئ وتميّعت حتى اضمحلّت وصارت سراباً حينما اختبرها الموت، واندثرت علاقتهم بالموت فصاروا لا يتأثرون به ولا يكترثون لأمره.
يموت العشرات والمئات والآلاف ولا يتحرك لهم ساكن، ما دام المالُ حاضراً وشياطين الإنس يعملون بكد لإمتاعهم فلا ضير لموت أي أحد.
نعيش في عالم سريع لدرجة مخيفة، متناسبةٍ تماماً مع غاياته العليا، والتي تؤول إلى تحقيق المنفعة القصوى للفرد، وتقديم المصلحة الفردية على المصلحة العامة، ولا يترك لك هذا العالم فرصةً للمراجعة والمحاسبة وإعادة التقييم.
مراجعة الذات ومحاسبتها شيء فطري يقوم به الضمير البشري المتيقِّظ بداهةً لا قسراً، إلا أن إعادة النظر والتأمل في مضامين هذا العصر ستصل بك حتماً إلى الفرار من سطوة الرأسمالية، ومن عبودية المادة غير المتلائمة مع طبيعة التكوين البشري من روح وجسد، وفيه الروح تعلو على الجسد.
وقد عجز عصر المادة عن تغذية تلك الروح التي تُسقى بالتأمل والتفكر في مكنونات النفس وخبايا الأمور وتترعرع بالتقوى والامتثال إلى مُثلٍ عليا كتقديم المجتمع على النفس وتقويم الذات والتضحية من أجل الآخرين وبذل الصدقات والمال- الذي يعتبره الغربي حقاً طبيعياً خالصاً له- لأجل إعانة أحدهم، وبذل الوقت في العمارة والعبادة والدعوة، لا العيش من أجل تلبية الشهوات وفقط.
إلا أن عملية المحاسبة هذه ستفضي لنتائج تتعارض مع مصالح المنظومة الغربية. فمُساءلتك لاستغلال مالك شركة عالمية ضخمة، تستغل جماعة إثنية مقموعة في إنتاج منتجاتها بأقل تكلفة ممكنة لن تكون أبداً في صالح المالك، الذي لا يأبه إلا بتعظيم الربح، بغضّ النظر عن حجم المعاناة التي تسبب بها لما يصنفه الإنسان الأبيض في عقله بأنه "إنسانٌ درجة ثانية"، هذا إن كان يضعه في مرتبة البشر من الأساس.
تتعارض السرعة القصوى مع المساءلة والتقييم، كما تتعارض شهوات الجسد مع غذاء الروح والارتقاء بها.
التقويم الوحيد المسموح به والمساءلة الوحيدة المشروعة في هذا العصر هي مساءلة كيفية تضخيم المنافع وتحقيق المصالح الذاتية، وبناءً على هذا فقط يُعاد التقييم وتتغير الأمور وتُرسى القواعد.
وهكذا أنتجت لنا الحضارة الغربية على مر السنين إنساناً متجرداً من إنسانيته. مات ضميره إكلينيكياً بمرور الزمن، فأصبح لا يأبه بمعاناة الآخرين فقط، بل ينتفع من تلك المعاناة، وتستمدُّ مصالحُه قوتها من ألم الآخرين، وبذلك يُحقق منفعته الذاتية ماضياً في طريقه بلا مُساءلة عن أي شيء.
في عالمنا اليوم غابت كلُّ المعاني وانقرضت كل المشاعر الإنسانية واختلت الموازين، حتى صار المرء أجوفَ ميتاً، في حالة بحثٍ مستمرة عن معنىً للحياة، ولكنه عندما وجد أن المسؤوليات المجتمعية والتكافل الاجتماعي وتحقيق العدالة في الأرض ستسلب منه جزءاً قد اعتاد نهبَهُ وسلبَهُ قسراً وغصباً؛ لجأ إلى التهرب من هذه المسؤوليات الأخلاقية تجاه المجتمع، بالبحث عن مسؤوليات أخرى أقل تكلفةً، كحقوق السلاحف والقطط- متمسكاً بكل حقوقه التي وهبها له النظام الرأسمالي الجائر- وبذلك نجح في إقناع ذاته بأنه إنسان راقٍ يهتم لشأن الغير، فأضحى يناشد ويصرخ بأعلى صوته لإيجاد مراكز إيواء للقطط، بينما ينام بنو البشر من جنسه في الشوارع والطرقات، وإذا ضرب أحدهم كلباً في الطريق يُحدِث انتفاضةً لأجله، ولكنه لا ينبس ببنتِ شفةٍ إذا قُصف الآلاف من البشر.
فالدفاع عن حقوق الكلاب لا تقترن به ضرائبٌ سياسية، ولا يقتضي جهاداً حقيقياً أو جهداً جباراً لأجل نصرة المظلوم وتحقيق العدالة، ولا يضر بمنظومة يحكمها المال وينظمها قانون الغاب، يكفيك بوق لتثرثر به قليلاً من خلف شاشة هاتفك، ثم تعود إلى اللّذات والمتع بدون دفع أي ثمن.
أما الجهاد الحقيقي والنضال لأجل القضايا الكبرى فيقتضي معه بذل النفس والمال والفكر؛ أي التضحية في المقام الأول بكل ما تملك؛ نصرةً لما تؤمن به، وهذا ما لا يقدر عليه مواطن العالم المادي الهش، الذي يعبُدُ الشهوات ولا يحركه إلا المال. فالشعور بمعاناة الآخرين يتبعه التزامٌ أخلاقيٌّ وواجب شرعيٌ في دين الإسلام، بنصرتهم التي سيتبعها ضرورة التخلي عن شهواتك وممتلكاتك، وهذا ما يخالف طبيعة التكوين النفسي والفكري لإنسان العصر المادي.
فقانون هذا العالم "الغالية تبرر الوسيلة، وما دمتُ أنا بخير فليحترق الجميع".
وهكذا مع تراكم اللامبالاة والتنصّل من المسؤوليات الكبرى، والاعتداد بالذات، وتعمّق فكرة الفردانية بداخل الإنسان، ضاعت هيبةُ الموت.
وكان ولا بد من حدث ضخم- طوفان كبير- أن يقع حتى يضع الإنسان الغربي في مواجهة مع منظومته الأخلاقية المشوهة والواهية، حتى يتجلى "النفاق وازدواجية المعايير وعنصرية الإنسان الأبيض وحقوق الإنسان الحصرية لمنطقة الشمال" أمام عينيه. هنا تتجلى المسؤولية، ويُختبر الإنسان في مبادئه، ويظهر مدى تأثره بمنتجات الحضارة الغربية ومضامينها. هنا يأتي الترجيح بين الحق والباطل، وكلاهما بيِّنٌ كضوءِ الشمس في وقت الظهيرة.
لقد اختبرت الحرب على غزة جميع المبادئ والقيم التي لطالما نسبها الإنسان الغربي لذاته؛ لكنها كشفت عن مَواطن العطب في تلك المنظومة، وعرَّت الغطاء عن المعاني الأصيلة الكامنة في عمق الحضارة الغربية، من أنانية ونفاق وعنصرية دفينة وكذب وتضليل ولا أخلاقية غير متناهية، وهكذا يمكن الإعلان عن موت الأخلاق في عالمنا الحديث، وإذا سقطت الأخلاق فلا عجب بأن يسقط الغربي أخلاقيات العمل بأكملها غير مبالٍ بشيء!
بدايةً من الخيارات الصغيرة حتى العظمى منها تتجلى إنسانيتنا، تبدأ من مفاضلتك بين كوب قهوة أو وجبة سريعة التحضير، وبين العزوف عن شرائها لأجل إنقاذ إنسان بريء من الموت، يسكن في الجانب الآخر من العالم، ومروراً بتخليك عن بعض من مصالحك وسلبيتك، وخوفك الدفين، فتبدأ مساءلتك للحكام والمسؤولين عن مشاركتهم في جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ووصولاً إلى مساءلتك عن كل ما تؤمن به بعدما ضللت الطريق، فتعود إلى طريق الحق والاستقامة، إرضاءً لوجه الله عز وجل، وربما هذه هي أعظم مفاضلة يقوم بها الإنسان في حياته، فيستعيد إنسانيته ويؤدي مهامه التي خُلق من أجلها من عمارة وعبادة ودعوة، وإحقاق الحق في سبيل الله.
وهكذا أحدثت "طوفان الأقصى" هزةً بداخل النفوس، وضعت الإنسان في مواجهة مع ذاته ومع منظومته الأخلاقية المستقاة من الحضارة الغربية، فتيقظت بعض الضمائر، وشرع الكثيرون في النظر في الماجريات وتقويم الذات، ومساءلة العاديات، وما اعتبره البشر من البديهيات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.