في أروقة البرلمان البريطاني، تجسّدت لحظة مثيرة من التوتر عندما واجه زعيم الحزب الوطني الأسكتلندي، ستيفن فلين، رئيس وزراء بريطانيا، بسؤال مُحرج أمام أعين الجميع.
فبكل بساطة طرح سؤاله على رئيس الوزراء ريشي سوناك: "هل يمكن لرئيس الوزراء أن يشارك رسالته بمناسبة عيد الميلاد للأطفال الذين يعيشون تحت وطأة القصف في غزة هذا الشتاء؟"، صدحت كلماته بثقل الواقع الإنساني والسياسي غير المفهوم حالياً في العالم. لكن هذا لم يأتِ بأي مشاعر لوسناك، بل أبدى رئيس الوزراء البريطاني رفضاً صريحاً للدعوة المتكررة إلى وقف إطلاق النار.
يبدو أن هذا المشهد سيترك بصمته في أذهان كل من له ضمير حي في هذا العالم، فالجميع يدرك اليوم الحقيقة المؤلمة في غزة، حيث يظهر الواقع القاسي لهؤلاء الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة الهمجية الإسرائيلية المعتادة، حيث تستبدل هدايا أعياد الميلاد في غزة بالمتفجرات والرصاص.
ومن تخطئه شظايا القنابل الإسرائيلية لن يخطئه برد العراء، إذ قصفت منازلهم قبل أن تقصف أحضان أمهاتهم التي ربما تكون مدفونة تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية. أطفال غزة كأعوام سابقة لن تنتظر هدايا أعياد الميلاد.
تتميز اتفاقية حقوق الطفل بأنها ميثاق حقوق الإنسان الذي جمع "أكبر عدد من التوقيعات" بين كل اتفاقيات حقوق الإنسان، وذلك بموافقة 197 دولة. حيث تُعَدُّ اتفاقية حقوق الطفل أكثر اتفاقية جمعت توقيعات من الدول بواقع 193 دولة.
وتتضمن مبادئها حماية حقوق جميع الأطفال دون تمييز، وإعطاء الأولوية لأفضل ما يصبّ في مصلحة الطفل، وضمان استمرار وجود الطفل ونموه، وحماية حق الطفل/الطفلة في المشاركة في القرارات.
يحتفل العالم بأسره باليوم العالمي للطفل في الـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو يوم إدراج الاتفاقية ضمن القانون الدولي. لكننا اليوم، وبعد بلوغ الذكرى الـ34 للاتفاقية، سنجد أن المجزرة التي تحدث في غزة لتهجير الفلسطينيين قد وجّهت ضربة موجعة لكل الجهود المتراكمة في مجال الكفاح من أجل حقوق الطفل.
أكثر من 100 طفل يموتون كل يوم.. ولا ذنب لهم غير كونهم أطفالاً
تحدثت المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسف كاثرين راسل عن حماية الأطفال في غزة أثناء اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقالت: "تُفيد المعلومات الواردة بمصرع أكثر من 5,300 طفل فلسطيني في غضون 46 يوماً فقط. ويلقى 115 طفلاً مصرعهم يومياً منذ أسابيع". وتُشير هذه الأرقام إلى أن وفيات الأطفال تمثل 40% من إجمالي الوفيات في غزة. ولا شك أننا أمام موقفٍ غير مسبوق. وبعبارةٍ أخرى، يُمكن القول إن قطاع غزة أظهر اليوم أنه أكثر الأماكن خطورة على الأطفال في العالم.
لقد صار قطاع غزة اليوم أخطر مكانٍ في العالم بالنسبة للأطفال مرةً أخرى. وبعد توقف العنف المُروِّع لمدة 7 أيام فقط، عاد العدوان الإسرائيلي من جديد. ومن المؤكد أن هذا سيؤدي لمصرع المزيد من الأطفال. يُذكر أن التقارير أشارت لمقتل أكثر من 5,300 طفل فلسطيني خلال القصف المتواصل على مدار أكثر من 60 يوماً، وقد أشارت كاثرين إلى أن هذا الرقم لا يشمل الأطفال الذين لا يزالون مفقودين أو يُعتقد أنهم مدفونون تحت الأنقاض.
ينتمي سكان غزة إلى فئة صغار السن إلى حد غير عادي، حيث تشير تقديرات "يونيسف" إلى أن هناك ما يقرب من مليون طفل يعيشون في قطاع غزة، ما يعني أن نصف سكان غزة تقريباً من الأطفال. كما تبلغ نسبة السكان دون 15 عاماً 40%، وفقاً لبيانات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
إن ما يحدث في فلسطين اليوم والبيانات المتاحة بين أيدينا هي أمور تُثبت بوضوح أن أهداف إسرائيل لا تقتصر على أرض فلسطين، بل تمتد لتشمل الشباب (الأصغر من 18 عاماً) الذين يُعتبرون مستقبل فلسطين، ويشكلون أكثر من نصف مجتمعها.
ومن المؤكد أن الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً من الاستهداف الإسرائيلي الممنهج للمدنيين المحميين، الذين يُشكل الأطفال غالبيتهم، وكذلك المستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس والمخابز ومستودعات الغذاء واحتياطيات الماء. وتستهدف هذه الاستراتيجية تجويع الناس عمداً حتى يضطروا لمغادرة قطاع غزة.
ويتعامل مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة مع 6 انتهاكات خطيرة ضد الأطفال في أوقات الحرب، كما تُعدّ إسرائيل من الدول الموقعة على اتفاقية حقوق الطفل، لكنها تستمر في ارتكاب 3 من تلك الانتهاكات، وهي: "قتل وتشويه الأطفال، ومهاجمة المدارس والمستشفيات، وحرمان الأطفال من الوصول إلى المساعدات الإنسانية" بطريقة متعمّدة وممنهجة داخل غزة.
ومع ذلك، وبرغم إعلان الأمم المتحدة لحقوق الطفل واتفاقية حقوق الطفل، لا تؤدي أجهزة الأمم المتحدة (مثل اليونيسف) دورها في حماية أطفال غزة.
ولا شك أن عدم إدراج إسرائيل على القائمة السوداء السنوية للأمم المتحدة، التي تضم الدول المُنتهكة لحقوق الطفل في الصراعات، هو أمر يتعارض تماماً مع إعلان حقوق الطفل واتفاقية حقوق الطفل. ولا غبار على فشل وتقاعس الأمم المتحدة في تولي مسؤوليتها المتعلقة بحماية أطفال غزة وفلسطين مثل بقية أطفال العالم.
سياسة الإفلات من العقاب
مع استمرار تصعيد الهجمات المروعة للقوات الإسرائيلية في قطاع غزة المحتل، تحدثت منظمة العفو الدولية إلى ناجين وشهود عيان من أجل التحقيق في الضربات الجوية التي نفذتها القوات الإسرائيلية بين يومي الـ7 والـ12 من أكتوبر/تشرين الأول. إذ أسفر ذلك القصف عن دمار مُروِّع وتسبب في القضاء على عائلات بأكملها في بعض الحالات. وراجعت المنظمة لقطات الأقمار الصناعية والصور ومقاطع الفيديو الموثقة، كما وثّقت الهجمات الإسرائيلية غير القانونية.
لكن مع الأسف، وقف المجتمع الدولي صامتاً ليشاهد إسرائيل وهي تطرد الفلسطينيين من بيوتهم، وتسيطر عليهم، وتفصلهم، وتقمعهم، وتضغط وتفرض هيمنتها عليهم. واختار المجتمع الدولي ألا يكون فعالاً، وألا يتخذ أي خطوات لتحميل إسرائيل المسؤولية عن انتهاكاتها الممنهجة وواسعة النطاق ضد الشعب الفلسطيني، وعن جرائمها بموجب القانون الدولي. وقد أدى كل ما سبق إلى تشجيع إسرائيل على الاستمرار في ارتكاب جرائمها.
ودفع الأطفال أرواحهم ثمناً لوقوف المجتمع الدولي بلا حراك في وجه ما يحدث داخل فلسطين. ويُمكن القول إن هذه المجزرة التي تحدث أمام عيون العالم بأسره أظهرت لنا أن حقوق الإنسان ما هي إلّا مجرد قصة خيالية فارغة.
نداء إلى المجتمع الدولي والقانون الدولي
إن مدى خطورة الانتهاكات السابقة والحالية في فلسطين يبرهن بوضوح على ضرورة تغيير المجتمع الدولي لنهجه في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وذلك على نحو عاجل راديكالي، مع الاعتراف الكامل بجرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ولا بد من توصيل المساعدات الإنسانية إلى أطفال ومدنيي غزة دون أي عوائق.
ويجب على المجتمع الدولي أن يقدم الدعم الكامل للتحقيق الجاري بواسطة المحكمة الجنائية الدولية في الوضع داخل فلسطين. كما يجب الامتناع عن أي تصريحات أو خطوات من شأنها شرعنة الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية في غزة -حتى لو بطريق غير مباشر.
ويجب كذلك إدراج الاحتلال الإسرائيلي في قائمة العار التي يصدرها الأمين العام للأمم المتحدة، والتي تضم قائمة الدول التي ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الطفل، بموجب قانون مجلس الأمن رقم 1612 لعام 2005. وتتضمن تلك الانتهاكات قتل وتشويه الأطفال، ومهاجمة المدارس والمستشفيات، وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية.
وإذا لم يستجب المجتمع الدولي لكل هذه الدعوات، فمن الضروري أن نطرح عليه السؤال التالي بنغمةٍ أكثر جديةً من أي وقتٍ مضى: ماذا سيفعل هؤلاء المسؤولون لو وجدوا أنفسهم وأطفالهم ذات يومٍ في حاجةٍ إلى حقوق الإنسان التي يتجاهلونها اليوم أكثر من غيرهم؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.