جذور لا يمكن اقتلاعها.. هل تحررنا فلسطين؟

تم النشر: 2023/12/12 الساعة 11:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/12 الساعة 11:01 بتوقيت غرينتش
من المظاهرات الداعمة للفلسطين - shutterstock

أن تعيش في وطنك لا يضمن لك أن تكون سعيداً، لكن أن تكون بعيداً عن وطنك، وعن أرضك، وجذورك حيث تعود أصولك، شعورٌ واحد سيظل يلازمك؛ ثمّة شيء خطأ في كل شيء! "البشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفراً مستوحشاً، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص"، مثلما قال الإمام الغزالي.

خلق الإنسان من التراب، والأرض التي ينتمي إليها أيضاً من تراب، ولا شيء يشبه ارتباط التراب بالتراب، تناغمه، وتداخل ذراته، وتجانس مكوناته. وربما لذلك يحن الإنسان لأرضه، كحنين التراب للتراب. فالأرض كقطعة متجانسة تعبر عن هوية وتراث وطقس وهيئة تتناغم مع الإنسان، تكمله ويكملها، وإذا فقد الإنسان وطنه اختل هذا التناغم.

كل الجذور لا يمكن أن نغيرها

حينما نتحدث عن الجذور، نتحدث عن أجدادنا وأجداد أجدادنا، ذلك الامتداد الذي يضرب عميقاً في أرض ما، يتوغل فيها ويتوحد معها، لا يمكن للأوراق أن تختلف تماماً عن طبيعة الجذور، لذلك الإنسان محكوم بسلالته تلك التي يتوارث منها جيناته المسؤولة عن تكوينه الجسدي والفكري، نحن نتاج جيناتنا عبر امتداد من الأجيال، تلك الأجيال التي تشكلت ذاتها واندمجت من المكان الذي عاشت فيه وامتدت جذورها عبره. لذلك يشعر الإنسان بالارتباط والتعلق بوطنه، فذلك من ارتباطه وتعلقه بذاته. ولعل ذلك ما يلخص هوية الإنسان التي يكون الوطن جزءاً أساسياً فيها، بجانب عدد من المكونات الأخرى، كالدين واللغة، وتكون الأرض هي الحاضنة الأساسية لبقية مكونات الهوية.

الوطن هو كل شيء نعرفه، ويشكل جزءاً من شخصية الإنسان المتوارثة عبر أجيال من الأجداد تشكلت ذواتهم من الوطن؛ حيث الطقس والعادات والتقاليد والمفاهيم وصفات وتراث وأسماء ومناطق وأساطير وحكايات وقضايا وحقوق، كل هذا شكل وجداننا المتوارث عبر مئات من السنين، لذلك كل الجذور لا يمكن أن نغيرها، فتظل أوطاننا باعتبارها أرض الجذور الأولى، هي المكان الملائم لذواتنا، يمكن أن نتأقلم عبر سنوات طويلة في حياتنا في أرضٍ غير أرض جذورنا، ولكن لن يمكننا أبداً تغيير جيناتنا المتوارثة، وسيرة أجدادنا التي شكلت وجداننا، حتى لو لم نزر أرض الجذور مطلقاً، فذرات ترابها سرت في دماء أجدادنا والتي هي دماؤنا.

اغتراب الإنسان

لا يستطيع الإنسان دائماً أن يعبر عن نفسه بشكل مباشر، يحتاج لوسيط يساعده على فهم ذاته والتعبير عنها من خلاله، ومن هنا يكتسب مفهوم الوطن أهميته الإنسانية، فالوطن هو تعبير الإنسان عن ذاته، من دون ذلك التعبير يغترب الإنسان عن نفسه. فالإنسان هو نتاج كل ما يدور في وطنه من علاقات بين الناس، وأحداث وظواهر طبيعية، فالوطن ليس مجرد مكان محدد، بل تاريخ ممتد وثقافة وطاقة شعورية يتسم بها الإنسان. لذلك اغتراب الإنسان عن أرضه هو جزئياً اغتراب عن الذات.

 ليس الاغتراب هو البعد المكاني فحسب، فربما يبتعد المرء عن أرض الوطن، لكنه يأخذه معه في كل مكان، يحمله بداخله، يشغل تفكيره في قضاياه، فيعبر عنه ثقافياً وفكرياً أينما ذهب، لذلك ربما لا يشعر المرء بالاغتراب بشكل كامل مهما ابتعد عن الجذور، لأنه يحملها بداخله. 

يغترب الإنسان حينما يحاول اجتثاث جذوره، واكتساب جذور جديدة، وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبداً، فيعيش في تلك المساحة الرمادية وفي اغتراب موحش عن ذاته، حتى لو كان في أرض وطنه، حينها يعيش الإنسان كقطعة (بازل) محشورة في رقعة لا تشبهها.

شعور غير قابل للتزييف!

قد يتأقلم الإنسان حينما تتوفر له سبل حياة كريمة في أرض أخرى، إلا أن ذلك لا يؤمّن له التناغم الحقيقي بين ذاته والأرض، وأنه سيعود لابد لأرضه، تحت وطأة حنين جارف، مغناطيس خفي، يجذب الأصل لأصله. المتأقلم يحن دائماً لأرضه، وإن لم يدرك سبب ذلك الحنين، يعيش معذباً تحت وطأة حنين لشيء يجهله.

في تلك الحياة الحديثة، وعصرنا الذي يمتاز بالسيولة، كما أشار الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان في سلسلة مؤلفاته عن عصر "الحداثة السائلة" والتي يحاول أن يفهم فيه الواقع المعاصر بأبعاده المركبة، كل شيء يتغير من مكانه لمكان آخر، حتى بدأ كل شيء في غير موضعه الصحيح، لكن يبقى ارتباط الإنسان بأرضه شعوراً أصيلاً، عصيّاً على التزييف، إذ أرى أن كل شعور يمكن أن يستورد ويتم تزييفه إلا اتصال الإنسان بأرض جذوره، لأنه وببساطة شيء متوارث منذ مئات السنين، وأن الإنسان الحالي الذي يعيش فوق الأرض هو نتاج بشر عاشوا وصنعوا تاريخاً وثقافة عبر سنوات لا حصر لها، وأن الإنسان الذي ينتزع من جذوره ويلقى في أرض أخرى لا يمكن أن يتعامل معها على أنها أرضه الحقيقية، مهما ادعى غير ذلك، إلا إذا تحول لذراتٍ أولية، وأعيد تشكيله ذرة ذرة من جديد! وهذا يظهر جلياً مع أول صراع حقيقي يحدث على الأرض، حيث يهرب المواطن المزيف ويبقى المواطن الأصلي متشبثاً بأرضه حتى لو فقد في سبيل ذلك حياته.

جذورٌ فلسطينية لا يمكن اجتثاثها

أثناء كتابة هذه المقالة مضى على الحرب في غزة أكثر من 60 يوماً، وتبدو لي هذه الحرب مختلفة كل الاختلاف، فهي أكبر من مشاريع التهجير التي يعمل عليها المحتل منذ عام 1948، وأكثر من عرض لاستعراض القوة والبطش الاستعماري، إنما هي حرب إبادة وتطهير عرقي، يظن بها جيش الاحتلال أنه قادر باستخدام قوة هائلة أن ينتزع الجذور الفلسطينية من الأرض، فالحرب على غزة هي امتداد لأساليب وممارسات متطرفة كان يتم تنفيذها على كامل التراب الفلسطيني بهدف التطهير العرقي للأصل الفلسطيني، وإبعاد أصحاب الأرض الحقيقيين إما بالطرد أو القتل.

يقول فيلسوف التربية الألماني ماتياس بورشارت: "طرد الناس من وطنهم هو جريمة بحق الإنسانية".

وفي الحقيقة ما نشاهده من مشاهد مروعة في حق الأطفال والنساء والمدنيين العزل كشف عن زيف الحضارة الغربية، وازدواجية معاييرها، فالإنسان يعتبرونه إنساناً فقط تحت شروط يضعوها هم، أولها تصنيفاً حسب الأصول والجنسية! فأي عالم متحضر هذا الذي نعيش فيه! وأي إنسانية تلك التي تسمح بارتكاب جرائم مروعة بحق مدنين عزل! وتسمح بأن تلقى مئات الأطنان من المتفجرات على أجساد لا تحمل سوى لحمها وعظمها!

فحتى لو نجح المحتل في تهجير كل المواطنين الأصليين من أرضهم، لن يمتلك الأرض أبداً بشكل شرعي، لأن المعركة معركة وعي، وما دام المواطن الفلسطيني، أياً ما كان مكانه الحالي، واعياً بالاتصال بينه وبين أرضه حيث تمتد جذوره، ويقوم بتقوية الروابط مع ثقافته وتاريخه ونضال من سبقوه، سيظل يحمل وطنه أينما ذهب، بل سيحوّل بهذا التشبث بقضيته كل الأوطان إلى وطنه، وكل المنابر لصوت عالٍ ينقل رفضه ويُثبت حقه.

الوعي هو الذي يشكّل الانتماء لا الوجود على الأرض، وهذا ما يحمي الإنسان من التخبط والتيه، وأن هؤلاء المستوطنين، الذين لا جذور لهم يعيشون في تيهٍ عظيم، لا يمكن احتواؤه عبر الزيف واستيراد وطن أو أرض بديلة، وأن بقاءهم على أرض ليست أرضهم لن يجعلهم أصحاب الأرض، الجذور تبصق الثمار المزيفة وتسقطها عن أفرعها، وكلنا شاهدنا كيف هرب المستوطنون مع أول خطر حقيقي قابلهم وتركوا أرضهم وهرعوا لبلادهم الحقيقية، وتكدُّس المطارات بالمغادرين في إسرائيل خير شاهد على ما أقول.

نحن نعيش في عالم شديد السيولة، يحاول رأس المال فيه دائماً تهميش أهمية المكان، وطيلة الوقت يتم تجريد الأماكن من هويتها وكل ما يميزها، فنرى الأماكن الجديدة صُمِّمت بطرز معمارية يجعلها رمادية، منزوعاً منها أي معنى، وذلك من أجل صناعة بشر بلا جذور، يستطيعون الإنتاج في أي مكانٍ وتحت أي ظروف، حينها يتحول الإنسان إلى آلة منتجة فقط، دون أي اعتبار لذاته ومكوناتها الأصلية، وبالتالي يفقد الاتصال بنفسه وبالأرض التي ينتمي إليها، وأنا أقول إن المواطن الفلسطيني أفشل هذا التوجه العالمي، وإن تشبثه الأسطوري بأرضه، نبّه الناس لقيمة الأوطان. فشكراً لكل فلسطيني لم يتخلَّ عن أرضه، حتى وإن أجبر على الخروج منها تحت النار، فهو يحملها معه أينما ذهب.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد الرحمن السيد
كاتب و روائي أردني
تحميل المزيد