تنطلق المدرسة التقليدية في التأريخ من أنّ التاريخ له حركة خطّية، تلك الحركة بدأت بعصور سحيقة عاش فيها الإنسان على الجمع والصيد والتقاف ما تلقيه له الطبيعة، ثم بدأت حركة السيطرة على الطبيعة من خلال اكتشاف الزراعة في حضارات الهلال الخصيب ووادي النيل، ثم فجأة يأتي العصر الكلاسيكي بالتفوق اليوناني الروماني وظهور نواة الفلسفة الغربية ومن ثم بذور فكرة الهوية الغربية أصلاً، ثم تأتي العصور الوسطى وما اتسمت به من احتكار رجال الكنيسة للحقيقة وللمجالين العام والخاص وما استتبع ذلك من جهل وتردٍّ وانهيار للتجارة العالمية وانحسار الإنتاج في الزراعة والإنتاج المحلي، ثم بعد هذا يأتي عصر التنوير حيث يكتشف الأوروبيّ -فجأة أيضاً، فالأوربي يتطور فجائياً طبعاً- أنّه يجب عليه أن يتخلص من قيود الكنيسة والدين ومن هنا ينطلق سهم التاريخ (المتجه للأعلى ودوماً للمزيد من الرخاء الإنساني) للحداثة ثم ما بعد الحداثة انتهاءً بإعلان فوكوياما عن انتهاء التاريخ بانتصار الرأسمالية الليبرالية عقب قرب انهيار الاتحاد السوفييتي (آخر منافس للفكر الليبرالي الديمقراطي الغربي).
هذا الإعلان أراد صاحبه أن يقول للعالم إنّ حركة التاريخ وتغير أفكار البشر قد انتهت، وما القادم إلا استكمال للنظام العالمي لتحقيق الرخاء الإنساني بعد الهيمنة الغربية التامة. ومن هنا ننتقل لجعل هذ النمط التاريخي الأوروبي عالمياً بنزع (أوروبيته) وظروفها الاستثنائية وسياقها الخاص، ثم تعميمه وجعله النمط العالمي الوحيد لـ(التقدم) وبالتالي كل مجتمع لم يستطع تحقيق تلك القفزات أو التقولب داخل تلك القوالب لهو بالضرورة مجتمع متخلف لا يستحق احتراماً. من هنا نعمم ونحدد أيضاً أعداء التنوير الأوروبي كأعداء للتحضر عموماً. وكما عممنا التجربة الاوروبية، نعمم عدوها فلا يكون المسيحية الكنسية الغربية، بل نعمم فيشمل الدين ككل.
هذه الرؤية العالمية للتاريخ المتمركزة حول أوروبا فقط والتي يتم اصطلاحها بالـ (Eurocentric) سيطرت على كثير من المؤرخين فألبستهم نظارة لا يستطيعون رؤية العالم أو التاريخ إلا من خلالها. وعلى هذا النحو فسّر أتباع تلك المدرسة ظهور الدولة المصرية الحديثة على يدّ محمد علي باشا في القرن التاسع عشر بأنه ما هو إلا تطبيق لسياسة التنوير الأوروبي في بلد غارق في ظلام الاحتلال العثماني، والغارق في الخرافات الدينية وسطوة المشايخ والدين الإسلاميّ الذي عرقل جهود التحديث. ثمّ كردة فعل أخذ بعض الأطراف الإسلامية الجبهة المقابلة كآلية دفاع مما دفع البعض منهم أحياناُ لنبذ كل إصلاحات الدولة إلى ذمها وذكر مثالبها والحديث عن إبطالها للشريعة الإسلامية، من ثمّ الهروب حنيناً إلي الماضي والبقاء فيه. غير أن الكاتب والمؤرخ الأكاديمي المصري خالد فهمي في كتابه "السعي للعدالة" يطرح سياقاً مختلفاً للغاية.
ينطلق خالد فهمي في سعيه للعدالة لتأريخ تلك الفترة الهامة في تاريخ مصر لا بلسان الكولونيل سيف، ولا بلسان كلوت بيك أو حتى بألسنة مذكرات كبار موظفي ومبتعثي الدولة المصرية مثل علي مبارك والطهطاوي وغيرهما -رغم أهمية شهاداتهم-، بل يدمج تلك الشهادات بالسجل الحكومي الوافر في مصر عن هذه الفترة والذي كان ثمرة حركة (دفترة الواقع) مما أتاح له الاطلاع على مراسلات الموظفين بهذه الدولة الوليدة، وسجلات المحاكم الشرعية وما عُرف بالمجالس السياسية التي تزخر بالأحكام القضائية والأهم من ذلك، شهادات المصريين أنفسهم التي مثّلت بشكل أو بآخر صوتاً لمن لا صوت لهم في التاريخ من (المصريين العاديين).
من هذه القراءة يستنتج فهمي في كتابه أن الحقيقة معقدة تعقيداً ويضع المجابهة النموذجية القطبية (الليبرالية في مواجهة الإسلاموية) في مأزق فاضح لتبسيط الروايتين المخلّ بالحقيقة.
لنضرب أمثلة على ما سبق ولعل المثال يثبت ما نرمي إليه، ينقل فهمي في كتابه عن فرانشسكو جراسي (رئيس المجلس الطبي القنصلي في الإسكندرية في عهد محمد علي باشا) بأن الحجر الصحي لمواجهة الطاعون والأمراض الفتاكة لا يفلح مع المصريين بسبب (عدم ثقة المسلمين في الطب وتعصبهم)، وهذا كان شأن عددٍ من الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر وسار على نهجهم عدد من الكتاب والمؤرخين في اتهامهم للمصريين المسلمين بعدم استيعاب تحديثات محمد علي جملة بسبب تخلفهم وأفكارهم الدينية السخيفة. بل وإن هذا هو السبب الذي جعل تلك التحديثات (وأولها الإصلاحات الطبية) لا تحدث في مصر العثمانية وما قبلها.
صحيح أن مفهوم الصحة العامة لم يكن موجوداً بشكله الحاليّ في ما سبق حكم محمد علي باشا، وأنّ ما وجد كان جهوداً كانت على الأغلب وقفية خيرية (مثل البيمارستانات في القاهرة) كنوع من الالتزام الأخلاقي من الأغنياء تجاه الفقراء الذين لا يتحملون تكلفة الطبيب الشخصي. لا مجهود منظماً تقوم عليه هيئة حكومية منظمة تنظر للسكان كوحدة مجردة ولهذا تهتم بصحتهم العامة وتجيّش لهذا جيشاً من الأطباء والموظفين. هنا يرجّح فهمي أن الاهتمام الذي أبدته الدولة الأوروبية الحديثة بما يسمى بـ(صحة السكّان العامة) لم يظهر في الدولة العثمانية أو من سبقها في حكم مصر لاختلاف الهدف والتوجه والنسق الذي تقوم عليه الدولة أصلاً لا بسبب القدرية والتخلف الديني، فهذا شكلٌ من الحكم يختلف عن الصورة النمطية للدولة الحديثة المنشأة إبان الثورة الصناعية وهوسها في توفير أفراد يملكون الانتماء القومي لها، ويصلحون لها عمالاً وجنوداً أصحاء ومدربين في دولة تنظر لأفرادها أنهم "غايتها وأداتها" بتعبير الفيلسوف الفرنسي فوكو.
"لقد قامت السياسات العثمانية إزاء مصر على ما يمكن تسميته بـ(منطق الجباية)، ولم تتطور نظرة إسطنبول تجاه الشعب المصريّ إلى حد رؤيته كغاية الحكومة وأداتها "
خالد فهمي، السعي للعدالة
ويمكن التدليل على هذا باستخدام نموذج محمد علي باشا نفسه بالنظر للاختلاف الجذري في سياساته مع المصريين قبل وبعد بدء تجييشهم في تجنيده الجبري. فلم نر منه اهتماماً في سنواته الأولى بـ(مشكلة السكان) وصحتهم، فهنا كان الباشا مجرد والٍ عثمانيٍ آخر، لكن بعد ذلك رأينا من حكومته العناية الفائقة موجهة لهم ولصحتهم بعد فشل عدد من حملات تجنيده الإجباري في جمع العدد المطلوب من الفلاحين لجيشه بسبب الحالة الصحية المتردية التي كان عليها الفلاحون، ومن هنا انطلقت سياساته الصحية العامة.
فهل كان محمد علي يحمل أفكار التخلف النابعة من القدرية الإسلامية، وفجأة نزل عليه وحي فولتير الذي أخرجه لأنوار التنوير وتطبيق سياسات الحجر الصحي والاهتمام بالصحة العامة بعد فترة من حكمه؟ أم أنّ كل ما في الأمر أن القدر أخذ محمد علي وحبسه والياً على مصر. لم يكن محمد علي من إسطنبول ولم يكن له مستقبل هناك كما كان الحال مع العديد من الولاة العثمانيين الذين يتولون القاهرة كتأهيل لهم لنيل مراكز أخرى مهمة بإسطنبول كالصدر الأعظم وغيرها، وأنّ هذا الباشا المحبوس في مصر لم يكن له بدّ غير تجييش الفلاحين المصريين لخدمة أهدافه السياسية -تنصيبه عاهلاً لمصر هو وذريته- والعسكرية في ظلّ عدم قدرته على الاعتماد على جنود أو مماليك من خارج البلاد وهنا تحوّل الشعب المصري أخيراً لأداة وغاية حاكمية.
أما ما تم تسجيله من رفض بعض المشايخ والعوام المصريين لسياسات الصحة العامة مثل الحجر الصحي أو التطعيم ضد الأمراض فقد دخلت فيه عوامل أخرى بعيدة عن كون القدرية الدينية هي العامل الأساسي. يستدل فهمي هنا بواقعة حدثت بأن سجّل عدد من مشايخ الشام عريضةً ضد سياسات الحجر الصحيّ والتي ختموها بقولهم إن "المسلمين لا يهابون الطاعون" وأنه لا يصيب المسلم إلا ما كتب الله له واستشهدوا بقوله تعالى "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم"، لكن قبل أن ينطلق بك جماح (التنوير) لإثبات الجهل الديني و(سطوة المشايخ) في المسألة، عليك أن تعلم أن المشايخ كانوا لسان العامة، أبناء القرية الذين تعلموا القراءة والكتابة واحتكوا بالكبار في دوائر الحكم لهذا فعادة ما كانت ألسنتهم هي التي تحمل شكاوى العامة السياسية والاقتصادية وتدافع عنهم ولهذا فكلام المشايخ هو الذي كتب فبقي، كذلك فمن الهام بيان أن اعتراضات المشايخ كان أغلبها -كما بيّن فهمي في كتابه- اعتراضات إجرائية، فقد سرت الشائعات عن نقل المرضى لحجر صحيّ خارج المدن بعيداً في الصحراء، واشتكى الفقراء أنه في حال حبسهم فمن يقضي حوائجهم اليومية وينفق عليهم، وسرى في الناس ما مفاده أن وفيات الطاعون لا يتم تغسيل جثثهم، وبل ويُصب على جثثهم الجير لمنع تفشي الطاعون منها، وأنه بذلك تتأخر عمليات الدفن وأنها لا تتم مطابقةً للشريعة الإسلامية، فمن هنا كان الاعتراض على هذه الإشكاليات التطبيقية. لكن حينما تم التفاوض والاتفاق على هذه الإجراءات التطبيقية وتم حلّها انصاع العوام والمشايخ لإجراءات الحجر الصحيّ تلك بل وشكروا للوالي حُسن تدبيره في رسالة أخرى ختموها بقولهم:
فالوقوف عند الأسباب وعدم التعرض للأسباب المهلكة من أعظم أمور الدين. لا زالت مراحم فيوضات ولي النعم (محمد علي باشا) شاملة لأبناء العصر ودعائم عز دولته مؤيدة بالظفر والنصر
خالد فهمي، السعي للعدالة
أما بالنسبة لتطعيم الأطفال الذي بدأه محمد علي باشا حينما رأى العديد من أبناء الفلاحين يموتون في طفولتهم، يروي فهمي أن المصريين قاوموا التجنيد الإجباري الذي فرضه عليهم محمد علي بشتى الوسائل والسبل، وفي بادئ ذي بدء ظنوا أن التطعيم الذي يترك علامة في الكتف إنما هو من أجل تأهيل أطفالهم للحاق بالخدمة العسكرية -مثل الوشم الذي كان يوشم به المساجين، أو البحارة- ولهذا أخفوا أطفالهم عن حملات التطعيم، وحينما فرضت حكومة محمد علي تذكرة (وثيقة) للسيطرة على ظاهرة التهرب من التطعيم احتال المصريون على هذه الطريقة لبعض الوقت بشراء تذكرة من طعّم أبنائه في السوق السوداء، لا لأن المصريين متعصبون ومتخلفون أو أنّه عندهم مشكلة دينية جذرية، بل إنّهم حينما رأوا هذا التطعيم يحمي أبناؤهم وأنه لا علاقة بينه وبين التجنيد العسكري، وكذلك بفضل إصرار حكومة الباشا عليه سار عليه المصريون ولم يجدوا فيه غضاضة بعد ذلك.
و هنا نسأل؛ ألا تبدو تلك الاعتراضات منطقية حتى في زماننا؟ لسنا ببعيد عن زمن كورونا حينما رفض كثير من الأوروبيون أنفسهم إجراءات الحجر الصحي والتطعيم الإجباري بل وتظاهروا ضدها، فهل هذا بسبب المعتقدات الدينية المتخلفة أيضاً؟ أم أن الحاصل أن السياق التاريخيّ مطلوب لفهم التاريخ نفسه، لا تبسيطه في القالب الأوروبي (الدين في مواجهة التنوير) الذي بالطبع لا يمكن حشر تاريخنا فيه.
النظر للتاريخ بالسياق الكامل وراء الأحداث يمنحنا فرصةً لفهم تاريخنا بشكل لا يدفعنا دفعاً نحو الانسلاخ من حضارتنا وثقافتنا ولغتنا وديننا بحجة كبتها للتقدم، وكذلك لا يدفعنا للتيار المقابل من رفض كامل للتحديث والحداثة والنظم التي سبقنا لها الغرب ونجح بها. وكان بين ذلك قواماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.