لنفترض أن هذه جدلية اقتصادية، وأنني سوف أجادل هنا حول الفرضية التي تؤكد أنه، نعم يمكن للمستهلك العادي أن ينهي حرباً. وسوف أترك لكم تناول الفرضية التي تعتقدونها وبحث الدلائل والشواهد التي تؤكدها أو تنفيها. مهلاً، لعلكم تتساءلون هل حقاً أفترض بأن مقاطعة الشركات الداعمة للحرب سوف تؤدي إلى إنهاء الحرب؟! لكن الطرح الذي أتناوله هنا هو أبعد من مسألة مقاطعة الشركات التجارية، ولتوضيح الفكرة سأعرضها في تسلسل تنازلي، من الحرب إلى المستهلك.
إن أي حرب تعتمد في قيامها على قوة اقتصادية تدعمها وتمولها، فالتسلح الحربي وإعداد الجيوش، وكذلك توفير خدمات النقل والرعاية الصحية لها، وتوفير المؤن للجيوش، كلها تكلف الكثير من المال. وفي عصرنا هذا فالحروب مكلفة جداً. أولاً بسبب حجم ونوع التسلح الحديث والمدمر الذي يكلف الكثير في إنتاجه وتطويره، وحتى نتيجة لاحتكاره. وثانياً، بسبب التأثير الضار لهذه الحروب على الاقتصاد من ناحيتين هما: أنها تعطل أو تؤثر على الحركة التجارية والاقتصادية، وأنها تؤدي لاستنزاف موارد الدول من خلال ضخها في تكاليف الحرب.
إذاً فإن الدول التي تدخل الحروب تتحمل تكاليف باهظة، فمن أين لها بالمال اللازم لتنفقه على الحروب؟ بطبيعة الحال سيكون مصدر المال أحد نوعين أساسيين؛ فهي إما تأتي للدولة من مصادر داخلية، أو من مصادر خارجية. وأشهر المصادر الداخلية التي تعتمد عليها الدول في موازنتها هي العوائد من مواردها الطبيعة أو الضرائب التي تفرضها. وبالنسبة للمصادر الخارجية فهي تتركز بشكل أساسي في الدعم الذي يقدمه الحلفاء في الحرب أو الديون من الدول الأخرى. وإذا تفحّصنا حالة الدولة العظمى في أيامنا هذه التي ما تنفك تشن الحروب أو تشعلها أو تؤججها، فإننا سنجد أن أهم مصادرها المالية هي الضرائب والديون الخارجية، أي أن أموالها تأتي إما من دافعي الضرائب أو من دول أخرى تمولها. ودافعو الضرائب قد يكونون أفراداً أو مؤسسات.
إلى هنا هل بدأت تتجمع لديك خيوط العلاقة بين المستهلك العادي والحروب؟ ليس بعد؟! حسناً، دعنا نكمل التدرج في هذا الأمر حتى نصل، لكن دعنا قبل ذلك نعُد خطوتين للوراء. إن ما يجعل أمريكا الأكثر قدرة على الدخول في حروبٍ عديدة سواء بشكل مباشر أو بالوكالة، هو نظامها الرأسمالي الذي جعلها عصب الاقتصاد على الكوكب.
فالنظام الرأسمالي يضمن لأمريكا ثقلاً اقتصادياً في معظم دول العالم، الأمر الذي يوفر لشركاتها العابرة للقارات الوصول للمنافع الاقتصادية في الأسواق الأخرى، وهذا يمنحها قوة اقتصادية. إلا أن صلب قوة أمريكا الاقتصادية يكمُن في توسع الرأسمالية الأمريكية في العالم بشركاتها واستثماراتها وقبل كل شيء بأنظمتها؛ مما أوجد ارتباطاً وثيقاً بين عواصم العالم المختلفة مع عاصمة الدولار. وهو ما يحقق لأمريكا القدرة المستمرة على توفير الأموال من الخارج، سواءً عن طريق شركاتها في الخارج أو مواطنيها العاملين في الخارج، أو من الديون التي تأتيها من الخارج، أو من خلال وصول منتجاتها وخدماتها للأسواق الخارجية، أو من الضرائب على المنتجات والبضائع التي تسعى للوصول للسوق الأمريكية.
لذلك لا يوجد أي عجب من قوة ونفوذ أمريكا على باقي دول العالم، الأمر الذي ظهر جلياً في الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزة. ولتوضيح الصورة أكثر فإن النظام الرأسمالي يحكم كوكبنا، فإن كانت أمريكا هي مركز هذا النظام فإن أطرافه هي عواصم العالم. وهذه العواصم توجد في كل مكان، وبقدر اندماجها في النظام الرأسمالي أو بقدر خضوعها للهيمنة الأمريكية، تُمد أمريكا والنظام الرأسمالي معاً بالقوة ونفوذ، هذه القوة تجعل أمريكا تصل دائماً للأموال التي تمكنها من دخول حرب تلو حرب ثم حرب بعد حرب.
وهنا يأتي وقت السؤال الأهم: من أين تأتي العواصم بالأموال؟ بالطبع سيرتبط الأمر بما ذُكر في بداية المقال عن كيف تأتي الدول بالأموال، وهذا صحيح. لكن ما علاقة ذلك بالمستهلك العادي؟ دعوني أوضح أولاً أن المستهلك العادي يُقصد به كل فرد في المجتمع قادر على استهلاك الموارد والمنتجات والخدمات وقادرٌ على اتخاذ القرارات المختلفة حول أنماط استهلاكه، مثل ماذا وكم وكيف ومتى يستهلك ما يستهلكه.
إن أموال العواصم تأتي من مواردها وخدماتها التي تقدمها للقاطنين فيها أو زائريها، ومن نشاطها التجاري والاقتصادي، وبالتأكيد من الرسوم والضرائب. وهنا تساؤلٌ آخر: ماذا لو حدث تباطؤ أو تقهقر أو تراجع في تدفق هذه الأموال، بناءً على قرارات اتخذها المستهلك العادي في تغيير أنماط استهلاكه، سعياً منه لإنهاء الحرب؟ هل سيوقف ذلك الحرب؟ وهل يمكن حدوث أمر كهذا، أم أنه محض خيال اقتصادي أو فرضية لا يمكن إثباتها؟
مرة أخرى سأجادل أنه ممكن في حالتين، الأولى توحد العدد الكبير المتصاعد من جماهير المستهلكين في تبني نمط استهلاكي تقشفي بشكل تدريجي على مدى زمني حتى إنهاء الحرب. الثانية أن يستهدف التقشف المفاصل الاقتصادية للعاصمة وهي التجارة والنقل والحركة والطاقة والاتصالات والخدمات العامة، بحيث يُحدد جدولاً زمنياً لأوقاتٍ يُقلل أو يمتنع فيها عن القيام بهذه الأنشطة أو استخدام هذه الخدمات والمنتجات، أو الامتناع عن دفع فواتير الخدمات والرسوم والضرائب خلال هذه الأوقات.
إن تبني هذا النمط الاستهلاكي لفترة زمنية مفتوحة حتى إنهاء الحرب، سيكون مؤثراً جداً على اقتصاد العواصم، وهو أمرٌ لا تمتلك هذه العواصم القدرة على التعايش معه، فالرأسمالية التي تربط هذه العواصم بالمركز، تقوم على قوة الاستهلاك والاستهلاك أكثر فأكثر. مما يجعل هذا النمط الاستهلاكي أو قرار المستهلك العادي -إن شئتم قول ذلك- ورقة ضاغطة على العواصم لاستخدام كل أوراق الضغط لديها على ممول الحرب وداعمها الأكبر حتى يوقف الحرب.
ولأن كل حراك وكل مسار داعم للقضايا العادلة ولخير البشرية تاريخياً، يبدأ بحركة فرد أو مجموعة بسيطة من الأفراد، فإجابتي مرة أخرى هي: نعم يمكن للمستهلك العادي إنهاء حرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.