في المقال السابق تحدثت عن مواجهات المسلمين مع عدو أكثر منهم عدداً، وأوضحت أن النصر في حالة عدم تكافؤ القوة يكون للضعيف، إن نجح في منع القوي من تحقيق هدفه كما في غزوة مؤتة، واليوم نستكمل الحديث عن غزوة الخندق، ومشابهتها للعدوان الإسرائيلي على غزة بعد عملية طوفان الأقصى.
يتشابه عدوان الاحتلال الهمجي على غزة بعد عملية طوفان الأقصى الخارقة في كثير من جوانبه مع غزوة الأحزاب، ونأمل أن ينتهي أيضاً كما انتهت غزوة الأحزاب، بانسحاب المهاجمين والمحاصِرين دون تحقيق هدفهم المعلن، كما نأمل أن تتحول المقاومة بعد هذه الحرب إلى المُبادَأة والهجوم لتحرير فلسطين من الاستعمار، كما تحوَّل المسلمون بعد غزوة الأحزاب إلى الهجوم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد جلاء الأحزاب عن حصار المدينة: "الآنَ نَغْزُوهُمْ ولَا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ نَسِيرُ إليهِم". وقد كان بالفعل، فبعدها بثلاث سنوات كان فتح مكة.
وهناك الكثير من التشابه بين عدوان الاحتلال اليوم على غزة وغزوة الأحزاب أو الخندق، نستعرض أولاً غزوة الأحزاب، ثم نحاول ذكر أوجه الشبه بينهما:
غزوة الأحزاب: بعد إجلاء يهود بني النضير عن المدينة بعد محاولتهم اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، توجَّه كثير منهم إلى خيبر، ولكنهم لم ينسوا ثأرهم مع النبي، فما إن استقرّوا بخيبر حتى شكَّلوا وفداً من عشرين من سادتهم وكبارهم، متوجهين إلى قريش؛ لحثها على حرب ضد النبي، ثم توجهوا إلى غطفان، ثم إلى كثير من قبائل العرب، ونجحوا في تأليب قبائل العرب المشركين على النبي، قريش أرادت الثأر من النبي والقضاء على دينه الذي يشكل خطراً على مكانتهم، وطمعاً في ثروات المدينة، وقد اتفق معهم يهود بني النضير، ودفع تمر خيبر لهم لسنة واحدة مقابل مشاركتهم في الحرب. واستطاع تحالف المشركين جمع 10 آلاف مقاتل في مواجهة 3 آلاف مقاتل من المسلمين في المدينة.
وكان تحالفاً جمع بين اليهود الراغبين في الثأر من النبي، الذي أجلاهم عن المدينة، وقريش التي تريد القضاء على دين محمد، بينما ما كان يشغل بال قبيلة غطفان هو المال، سواء من يهود خيبر أم من المدينة، بالإضافة إلى انضمام الكثير من قبائل العرب آنذاك، وقد انضمَّ لهذا الحلف بعد ذلك يهود بني قريظة، وكان بينهم وبين النبي محمد حلف، فتوقع النبي أن يفي بنو قريظة بعهدهم ويقوموا بحماية المدينة من الجنوب، فقام سيدنا محمد بناءً على نصيحة سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة من جهة الشمال، بينما كانت هناك موانع طبيعية تحمي المدينة من الشرق والغرب.
في حرب غير متكافئة، تجلَّت عبقرية رسولنا الكريم في تقوية جبهة المسلمين الداخلية فكانت استشارته لأصحابه في كل خطوة لرفع معنوياتهم وإشعارهم بأنهم شركاء في القرار، وكان نتيجة لهذه الشورى توحيد الجبهة الداخلية للمسلمين، والوصول لأفضل القرارات رغم الحصار المضروب عليهم.
حين تشاوروا في البداية عرض عليهم سلمان الفارسي أن يقوموا بحفر خندق حول المدينة ليتحصنوا خلفه، ليمنع المشركين من دخول المدينة من الشمال، وكان هذا أسلوباً حربياً جديداً على العرب، ولم يتوقَّعه الأعداء، ولم يُعدوا له عدته، وعندما تكامل حفر الخندق واقترب الأعداء من المدينة أمر النبي بوضع النساء والأطفال في أحد الحصون بالمدينة، ليكونوا بمأمن من ناحية، ومن ناحية أخرى ليطمئن المدافعون عن المدينة على نسائهم وأطفالهم، حتى لا ينهزموا أو يتقهقروا في أي مرحلة من الحرب خوفاً على ذويهم.
وأيضاً محاولة تقويض تحالف المشركين، حين فاوض النبي قبيلة غطفان على إعطائهم جزءاً من ثمار المدينة، على أن يرجعوا، فوافقت القبيلة، لكن بعد أن رجع النبي لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة، قائدا الأنصار بالمدينة، وسألاه أولاً هل هذا أمر ديني، فيسمعون ويطيعون، أم يفعل ذلك لحمايتهم وردّ المهاجمين، فلما أخبرهم النبي بأنه يفعل ذلك حمايةً لهم، أخبراه بأنهم حين كانوا في الجاهلية لم يعطوهم من ثمار المدينة إلا ما كان إكراماً لضيف أو بيعاً، وبعد أن أعزهم الله بالإسلام لن يعطوهم شيئاً، فأقرهم النبي، وكان ذلك زيادةً في تثبيت الجبهة الداخلية من ناحية، وبداية كسر جبهة المشركين من ناحيةٍ أخرى.
وظهرت عبقريةُ رسولنا الكريم العسكرية بعد أن أخذ برأي سلمان في حفر الخندق، حين أجرى معاينةً لمكان الخندق، فاختاره من جهة الشمال، على أن يكون خلفه جبل سلع، ليكون حمايةً طبيعيةً من خلف المدافعين عن المدينة، أما من ناحية الغرب فكانت حِرَّة الوبرة، ومن الشرق كانت حِرَّة واقم، وهما مانعان طبيعيان يمنعان الهجوم من الغرب أو الشرق. بينما في الجنوب كانت منازل المدينة المتلاصقة حاجزاً طبيعياً يمنع تقدم الخيل، ولم يبقَ إلا الجنوب الشرقي، حيث يهود بني قريظة، وكان بينهم وبين المسلمين تحالف دفاعي يضمن دفاع بني قريظة عن المدينة مع المسلمين.
وحين جاء نعيم بن مسعود مسلماً للنبي، وكان ذا رأي مسموع عند اليهود وعند العرب المشركين، طلب منه النبي أن يكتم إسلامه ثم يُوقع بين المشركين ويهود بني قريظة، الذين نقضوا عهدهم مع النبي، فذهب نعيم إلى يهود بني قريظة حينَها يخوّفهم من انسحاب المشركين، سيبقون وحدهم في مواجهة النبي؛ ولذا فعليهم أخذ مجموعة من الرهائن من وجهاء قريش حتى يضمنوا عدم انسحابهم، ثم توجَّه لقريش ومَن معها من المشركين وأخبرهم بأن اليهود سيطلبون منهم رهائن ثم يسلمونهم لمحمد، وهكذا تصدَّع الحلف بين اليهود والمشركين.
بينما كانت القشة التي أنهت هذا الحصار بعد 21 يوماً هي عاصفة قوية باردة، هبَّت على خيام المشركين فاقتلعتها، وأطفأت نيرانهم، فكان قرارهم السريع بالانسحاب بعد ضرب وحدتهم.
أما التشابه في مقدمات الحربين فكان كما يلي:
دور أعداء النبي ودسائسهم في تأليب مشركي العرب على غزو المدينة، ويقابله دور الاحتلال في تأليب حكومات الغرب على المقاومة، حتى إن قادة أكبر خمس دول غربية زاروا إسرائيل لإعلان دعمهم لحرب الإسرائيليين الإجرامية على غزة.
وتتشابه الحربان في أن كلاً منهما رافقها حصار كامل، ففي المدينة حاصر المشركون المدينة وجاع سكانها، لدرجة أنهم كانوا يضعون الحجارة على بطونهم لتقليل إحساسهم بالجوع، بينما اليوم يفرض الاحتلال حصاراً صارماً على غزة منذ سنوات طويلة، ومع بداية الحرب شدَّد الحصار، فمنع عنهم الغذاء والدواء والطعام والوقود والكهرباء.
وفي الحربين كانت موازين القوى لصالح المعتدين بصورة كبيرة، فجيش الأعداء حينها كان 10 آلاف، بينما كان جيش المسلمين 3 آلاف فقط، وفي "طوفان الأقصى" تتكون قوات الاحتلال من مئات الآلاف، مع استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط، بينما المقاومة في غزة بضعة آلاف من المجاهدين، بالإضافة لفارق السلاح الهائل بين الطرفين.
في غزوة الخندق لجأ النبي لحفر الخندق لحماية المدينة، وفي طوفان الأقصى حفروا مئات الكيلومترات من الأنفاق تحت الأرض، لتحييد فارق القوة مع العدو، فلم يستطع الوصول إليهم.
وكما بدأت غزوة الأحزاب بتحالف بعض قبائل العرب واليهود في ذلك الوقت، ثم تفكك هذا التحالف بعد الحصار، فإن عدوان الاحتلال على غزة بدأ بأقوى تحالف مع إسرائيل من كل دول الغرب، وتأييد لا حدود له، ولكن مع الحرب وفضح جرائم الاحتلال بحق أهل غزة بدأت المظاهرات في كل دول أوروبا؛ تنديداً بالجرائم، وحثاً لحكوماتهم على الضغط على الاحتلال؛ إذ نرى اليوم جراء الضغط تحولاً ولو يسيراً في الموقف الغربي، من تأييد مطلق إلى تأييد متناقص، مع كل فضح لجرائم الاحتلال في غزة.
كانت نهاية غزوة الأحزاب عن طريق ظاهرة طبيعية لا دخل للبشر فيها، وهي الرياح الباردة التي اقتلعت خيام الأعداء وعجَّلت بجلائهم، وفي ظل التخاذل الذي تشهده غزة من العالم اليوم، نأمل أن تكون هناك نهاية ربانية فوق قدرات البشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.