نمر على قوله تعالى في سورة فصلت {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وقد لا تتجسد المعاني الواضحة المادية الجلية لهذه الآية بسهولة، وقد يعتقد مُعْتقدٌ أن الآيات انتهت مع زمن الأنبياء والمرسلين، لكن من الواضح أنها لا تنقطع أبداً في آفاق السماء والأرض لتبين للعبد قوة وعظمة وربوبية الله عز وجل.
وباعتبار أنني من مواليد ليبيا ثمانينيات القرن الماضي، فإنني لم أشهد حروباً، فحرب تشاد كانت قد انتهت، إلى عام 2011، والانتفاضة الليبية ضد حكم القذافي وما تبعها من حروب، عشت كنازح وشاهد ومشاهد لأدق تفاصيل الحروب كيف تطول وكيف تقصر وكيف تُدار وكيف تبدأ وكيف تنتهي، ترى أن الحرب سلسلة من المعارك، والمعارك جامعة كبيرة لعدد من المواجهات من هنا ومن هناك، وكل جزئية فيها لها احترامها، وكل انتصار أو هزيمة أو قرار داخل المواجهة قد يؤثر على المعركة، ومن ثم على الحرب بأكملها، والأمثلة عدة والشواهد كثيرة.
خاضت فصائل المقاومة في غزة عدداً من المواجهات مع قوات الاحتلال وعدداً أقل من المعارك في حربها المقدسة لتحرير الأرض والعيش بكرامة، حرب 2006 و2008 و2014 وحتى مارس 2023، وصولا لمعركة طوفان الأقصى، أم المعارك، وجوهرة تاج النضال من أجل التحرر، وفي أم المعارك هذه تظهر الآيات جلية لكل ذي بصيرة، آيات تشير لعظمة الخالق رب العباد ومدبر الأمر، الغالب على أمره فوق سبع سماوات، تجسّدت الآيات بين المدنيين سكان القطاع من الأهالي وبين المقاومين من الفصائل؛ حيث تتجلى الآيات يوم غزوة بدر الكبرى وقوله تبارك وتعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وفي غزوة الخندق، حينما هزم الله أكبر جمع جمعته قريش، وفي جزيرة العرب حتى ذاك التاريخ بصبر وجلد في صفوف المسلمين، وشك وتخوين دبّ في جسد الأحزاب حتى عادوا خائبين وأنكسروا إلى غير رجعة.
حتى كتابة هذه الأسطر، مضى على اندلاع الحرب أكثر من شهرين، لك أن تتصور فيها الوضع الغذائي لعدد مليون مواطن، يعيش جزء لا يستهان به منهم تحت خط الفقر، وفي بطالة عالية، إلا أننا لم نشهد أي مناشدة شعبية لطلب الغذاء أو الماء، أو تسوّل في موقف يحسبهم الجاهل فيه أغنياء من شدة التعفف، فيما قد يندفع شعب آخر إلى الأسواق ليشتري المؤن ويخزنها يرزق الله أهل غزة الصابرين من حيث لم يحتسبوا، وهو القائل في سورة آل عمران {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، بينما بالحساب المنطقي لا يمكن إلا أن يكون جزء من سكان القطاع قد هلكوا بسبب النقص في إدخال المساعدات، لكنه الله تبارك وتعالى، ربهم ذو الطَّوْل.
كل ما يجري من المآسي التي نراها نحن فقط – ولا نعيشها بحذافيرها – تتقطع لها أفئدتنا وتنهال الدموع بين الفينة والأخرى، أفكر كيف لهؤلاء أن يمتلكوا هذا الصبر والجلد ولا يصابوا بالذعر أو بانهيار عصبي، كيف لهؤلاء الذين لا تنفك آذانهم تستمع لصوت القذائف الإسرائيلية الأمريكية المزلزلة وهي تَرْعَد فيذهبون فوراً لمكان القصف لينقذوا العالقين أو ينتشلوا جثث من استُشهدوا، مع أنه من الوارد أن تكون بيوتهم هي الهدف القادم، ويقدم المكلومون دروساً في الصبر وامتصاص الصدمة الأولى، حامدين الله في مقام لا يُحمد إلا سواه، حينما بشرهم الله في القرآن الكريم.
يُرْبي الله معاش أهل غزة في مؤنهم وغذائهم ويُسقط اقتصاد تل أبيب سقوطاً حراً، يجعل كل ساعة هي وبال على دولة الاحتلال، فسبحان من جعل إسرائيل صاحبة القوة العسكرية والاقتصادية تسابق الزمن الذي لم ينتهِ لإيجاد حل تعرف أنها لن تصل إليه، شاءت أم أبت، بينما، ورغم أن ساحة الحرب بيوت الآمنين ودور العبادة والمشافي، فإن الله تبارك وتعالى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
أما آيات القتال بين قوات الاحتلال وفصائل المقاومة فحدّث ولا حرج، إذ يحاول العدو الغاشم أن يقصف ويقتل وينكل ويستعمل القذائف القاتلة التي تزن طناً، والصوتية لإرهاب المقاتلين، لكن ما رأيناه كان عكس هذا؛ إذ يرتعد من يحمل دروعاً تزن أكثر من ثلاثين كيلوغراماً، ويمتطي الميركافا أو عربة النمر عالية التصفيح، لكن مقذوفاً بكيلوغرام من البارود، أي جزء من الألف من القنبلة المزلزلة يستطيع إخافة نتنياهو في تل أبيب.
عسكرياً تقول إسرائيل إنها فصلت شمال القطاع عن جنوبه، لكن الإمداد يصل والأنفاق تطل على خيم الجنود الإسرائيليين، وحتى عمليات الإنزال والمداهمة باءت بالفشل، بل إن مقاطع الفيديو تصل من هنا وهناك، ويتحرك المقاتلون في حي الزيتون شمال القطاع بكامل التنسيق مع مقاتلي جنوب القطاع، يضربون الأهداف ويرعبون الجنود ويفتكون، مع أنه، ومن باب المنطق، وكما تدّعي إسرائيل أن شمال القطاع انفصل تماماً عن جنوبه، ففشلت في التمركز، وحتى في العمليات النوعية لإنقاذ الأسرى.
على مستوى الإعلام الحربي، فشتان بين الصادقين أصحاب الحجة والقضية وبين المدلسين أبناء بن غوريون وديان، مقاطع القسام التي تظهر بمونتاج وبجودة عالية أصبحت محط أنظار الجميع بين من شفى الله صدره ومن فرح بنصر الله وبين منذهل منها ومصدوم وحزين ومدرك أنه لا انتصار على هؤلاء، بينما جاءت الوكالات العالمية التي لها في مجال الإعلام قرابة القرن لترى أدلة كيان الاحتلال في مستشفى الشفاء بقائمة كتب عليها أيام الأسبوع وأسلحة بجانب جهاز الرنين المغناطيسي، وأموراً أخرى لا يمكن وصفها إلا بالمضحكة، مجلياً لقول الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}؛ إذ اختل توازن إعلام الاحتلال المدعم بالشركات المليارية وبالمستشارين الذين يتلقون الضربات واحدة تلو الأخرى.
لن تكون – بإذن الله – معركة طوفان الأقصى إلا طوفاناً حقيقياً يؤدي إلى نصر مؤزر عسكري، كما انتصرت في الجانب الإعلامي والجانب الأهلي وجانب الوعي الذي أعاد القضية للواجهة من جديد بعد أن كادت تموت في ضمائر وقلوب المسلمين قبل ضمير العالم الذي من الواضح أنه فقد ضميره ولا ينتهج إلا بنهج القوة والمال كغطاء لأيديولوجيات دينية حاقدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.