ها هما شهران يمران وغزة تواجه وحيدة حرب الإبادة والتدمير الممنهجة على يد التحالف الأمريكي الإسرائيلي المدعوم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بأنظمة البؤس والاستبداد، وها هم رجال المقاومة يردون بما توفر لديهم من قوة ومن رباط الخيل، يذيقون العدو ولأول مرة منذ تأسيسه مرارة الهزيمة، ويرغمونه على خوض القتال بعدما اعتاد ممارسة القتل من جهة واحدة على مدار 75 سنة، وها هو الطوفان يغير كل المعادلات ويكسر كل الأساطير التي أقيم عليها الاحتلال وأحيط بها كيانه المفبرك.
ووعياً منا بأهمية الحدث، وحتى لا نقع في الخطأ التاريخي نفسه بالتوقف عند مدحه والإشادة به والاكتفاء بخطاب التحشيد وتعبئة الجماهير على أهمية ذلك، خاصة أثناء المعركة، لأن مكاسبه سريعة وآنية، ويزول مفعوله ونفقد آثاره كذلك بسرعة، ولنا في حرب أكتوبر 73 أحسن مثال على ذلك، فرغم إلحاقنا الهزيمة بالعدو في بداية الحرب إلا أن غلبة منطق الخطاب العاطفي على منطق الوعي والحس الاستراتيجي قلب النتيجة لصالح العدو، وحصّل مكاسب استراتيجية لم يكن يحلم بها بفضل ما عُرف بالزيارات المكوكية للاستراتيجي الصهيوني كيسنجر وزير خارجية أمريكا حينها (حاول تكرارها بلينكن وزير الخارجية الحالي)، والتي كان من أهمها إخراج مصر من معادلة الصراع إلى معادلة الخنوع والاستسلام.
لهذا وجب علينا السعي للمساهمة في تبصير الأمة بقضيتها المركزية، ورفع مستوى وعيها بحقيقة الصراع وطبيعة الاحتلال، وتبيان عوامل القوة التي تعمل لصالح القضية أو الخاذلة لها، مع جرد الأهداف الممكنة والوسائل المتاحة في كل مرحلة من مراحل الصراع، فهندسة التعبئة الشعبية تحوّل الحماسة إلى عمل ميداني يؤطره ويضبطه فكر استراتيجي فاعل يحمي المقاومة ويعجل بنصرها، فإذا كانت نظرتنا يضبطها هذا المنطق نلحظ أن طوفان الأقصى كشف أطرافاً وعرى دوائر، إن على المستوى الداخلي، الإقليمي أو على المستوى الدولي، وحقق بذلك وظيفة مهمة كنا نفتقدها وهي "الكاشف" للمسار، وحصّلنا مكسباً استراتيجياً تبنى على أساسه خطط التحرك الآني والمستقبلي للمقاومة وأنصارها في داخل فلسطين وفي خارجها.
1- البيئة الداخلية: كشف الطوفان أن مقاومة المحتل والتضحية في سبيل الحرية يحملها كقناعة وكممارسة الغزاويون بمفردهم، ففلسطينيو الضفة و فلسطينيو الداخل المحتل لم يظهر لهم أي تحرك حقيقي، وخاصة الضفة، حيث عددهم أهم ووضعهم الجغرافي أحسن. مع تسجيلنا لبعض الردود الحماسية للجماهير عبر بعض المسيرات التي سمحت بها سلطة أوسلو بهدف تنفيس الغضب الشعبي المتنامي، والذي تُرفقه كالعادة بقمع عنيف تنفذه ميليشياتها المختلفة المجهزة والمؤطرة من قبل الاحتلال، وبغض النظر عن المبررات التي تسوقها الجماهير، فإننا نسجل هنا أن:
– هذا لا يسقط عنها واجب النصرة، ولا يعفيها من واجب مواجهة سلطة أوسلو التي تحولت لخدمة العدو وأجنداته.
– غياب القناعة المشتركة لدى الداخل الفلسطيني بضرورة محاربة المحتل، عامل يخذل القضية ويعرقل مسار التحرر.
– من أوجب واجباتهم اليوم التحرك على الأقل لتخفيف الضغط وفك الحصار عن غزة.
2- البيئة الإقليمية: ونعني بها مجموع دول الطوق الهلالي، أو لنقل الدول المحيطة بفلسطين، خاصة (مصر، والشام، والعراق، والأناضول)، لأن التاريخ علمنا أن تحرير القدس من قبل (على يد صلاح الدين) جاء بدعم مباشر من هذه المناطق خاصة، وهذا الطرح لا يُعفي دول الخليج أو الدول المغاربية وشعوبها رغم أن تأثيرها غير مباشر بسبب واقع الجغرافيا، وهو عامل ثابت لا يمكن مناقشته. وكما تكشفت البيئة الداخلية لعب الطوفان الدور نفسه وكشف البيئة الإقليمية وعرى أنظمتها التي طالما تغنت بالقضية في عهد العنتريات وسيادة المنطق العاطفي، حيث:
– وجدت فلسطين الخذلان وحتى التحول إلى مناصرة المحتل من أقرب جيرانها، وتعرضت المقاومة للمضايقة والتحريض عليها ممن كانت تعتقد أنهم أنصارها، فمصر بيبرس والأيوبي تحولت في ظل عسكر "انقلاب 52″إلى داعم للاحتلال ببناء الجدران وتعويم الأنفاق والغلق التام للحدود بهدف خنق المقاومة ومحاولة كسر حاضنتها الشعبية بالتقتيل والتجويع بجريرة تبني خط التحرر ودعم رجالاته.
– الشيء نفسه وإن كان بدرجة أقل وبأشكال أخرى تمارسه باقي الأنظمة، مع الأخد بعين الاعتبار أن عدداً معتبراً منها مثل العراق وسوريا وغيرهما هي دول مُهشمة لا ينتظر منها الكثير في وضعها الحالي.
– المفاجأة ربما صنعتها تركيا التي ظهرت برد فعل باهت أذهل المتابعين، ولقد حاولت حكومتها الاستدراك وتزيينه مؤخراً ببعض التصريحات التي لا تخرج عن خطاب العنتريات الذي ألفناه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي والذي يحكمه منطق "أوسعتهم سباً وأودوا (ذهبوا) بالإبل"، فبعد صمت طويل ومريب سمعنا أرودغان يصف حكومة المحتل بالإرهابية ورئيسها بالمجرم! ولا أدري ماذا ستفيد غزة هذه الاكتشافات المذهلة حول طبيعة الاحتلال أو هذه التصريحات الخطيرة على منابر التجمعات الشعبية على بعد مئات الكيلومترات! والأدهى تلويحه باللجوء إلى المحكمة الدولية التي هي أداتهم بالأساس!
– الجديد هو مجاهرة دول التطبيع بالعداء للقضية، وخاصة الإمارات والبحرين اللتين أدانتا المقاومة وتعاطفتا مع العدو وقتلاه، وعملتا حتى على عرقلة كل مساعي الدعم للقضية في مختلف الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية، فحتى بيان التنديد المعهود عن الجامعة العربية مثلاً اجتهدتا لتخفيف لهجته، وعملتا على إدراج الجلاد والضحية في المرتبة نفسها، كما ظهر خذلان سعودي واضح بمنع كل أنواع الدعم الجماهيري وإطلاق العنان لعلماء البلاط لليّ أعناق النصوص والإفتاء بما يخدم العدو ومصالحه تحت عناوين: السلم، والتهلكة، وإذن ولي الأمر بالجهاد، والجهاد بالسنن! وغيرها من المغالطات الضالة المضلة.
– كما عرى الطوفان منظومة الخيانة للقضية تحت عنوان التطبيع، فإذا استثنينا اللتين جاهرتا بالعداء، والسعودية التي اضطرت لتأجيل انضمامها، نجد المملكة المغربية التي هرولت للانضمام إلى محور التطبيع المجاني، ومنحت موطئ قدم للعدو في المنطقة المغاربية بمبرر توفير خدمة أكثر فعالية للقضية من موقع الخيانة الجديد، لم تجد ما تغطي به سوأتها إلا بالسماح ببعض الفعاليات الجماهيرية الداعمة للقضية في حدود معينة ومحسوبة لا تتجاوز عملية التنفيس، خوفاً من خروج الأمر عن السيطرة.
3- البيئة الدولية: ونعني بها تحديداً الغرب بقيادة أمريكا؛ لأنها الإمبراطورية الغالبة حالياً، وهي التي تعهدت عملية زرع الكيان، وهي المتكفلة برعايته وحمايته من حينها إلى يومنا، وكغيره كشفه الطوفان وأخرجه عارياً أمام نفسه وأمام الناس، وأسقطت المقاومة بهجوم الـ7 من أكتوبر النظام الغربي على الأقل على 3 محاور أساسية:
– كشفت الطبيعة الإجرامية للغرب واستعداده الكبير لتبني العنف وممارسته في أقصى صوره والسعي لإبادة الآخر، ففي لحظات تناسى الغرب بكل مكوناته الشعارات التي حملها ودعا إليها منذ عهد التنوير كالأخوة والمساواة والمعاملة الحضارية وحرية الرأي، وغيرها من الدعايات الرنانة، وتحول إلى داعٍ لقتل الآخر وإبادة الفلسطينيين وتجريم الرأي المخالف ومحاولة غلق الإعلام أمامه، والضغط الاقتصادي والطرد من العمل لكل مجاهر بدعم القضية الفلسطينية.
– عرّى الطوفان الغرب وزاد من عزلته أمام باقي العالم، فسرّع تنامي كتلة عالمية مضادة للنظام الغربي، وعجّل بظهور تيار مضاد مخيف بحجمه وسرعة سيره في اتجاه الصدام.
– كشف عورتهم الأخلاقية واعتمادهم الفاضح والفاحش لمبدأ "ازدواجية المعايير"، وعرّى ثقافة الغرب في شقها الأخلاقي والمبدئي، وهذا ما يهدد بانهيار نظام ما بعد الحربين العالميتين والقائم نظرياً على مبدأ التحاكم إلى القانون وتساوي الجميع أمامه.
4- وأخيراً نقول للمقاومة: فعلتم ما بوسعكم، وحققتم الكثير، أقلُّه:
١- أدخلتم الشك وعدم اليقين في خيارات أجمعت عليها البيئات الاستراتيجية الثلاث (سلطة أسلو والمستفيدون منها داخلياً، ومحور التطبيع إقليمياً، والغرب المنافق دولياً)، كأسطورة الجيش الخارق الذي لا يقهر، والمنظومة الأمنية التي لا يمكن تجنبها، وفكرة التوصل للحل بتصفية القضية وتجاوز أصحابها… وغيرها.
٢- سمحتم برفع مستوى وعي الأمة، وفتحتم أعين العالم على عدالة قضيتكم، وها هي بوادر انقلاب الرأي العام الدولي لصالح فلسطين وتحريرها تبرز، فها هي الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت لصالحها رغم الضغوطات الغربية، وها هو المجتمع الحر في الغرب يخرج في مظاهرات ضخمة معبراً عن إدانته لحكوماته الداعمة لحرب الإبادة، وها هي الطبقة السياسية تنقسم ويتراجع الكثير منها عن تصريحاته المتصهينة في بداية معركة الطوفان.
٣- حشرتم الخونة من داخلكم أو من محيطكم العفن في الزاوية، وألجمتم على الأقل ألسنتهم، وأسقطتم حججهم الواهية في أصلها.
ونقول لأنصار المقاومة: من المهم الاستمرار في دعمها، وخاصة بإنارة حسها الاستراتيجي الذي يسمح بفهم ما يطرح من مسارات وقراءة المآلات، وبالتالي وضع خطط المواجهة المناسبة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.