للوصول إلى متلازمَة الحقيقة الغَائِبة، وجب الإدراك أنّ الصّراع العربيّ الإسرائيلي صِراعٌ وجودِيّ ينطلق من أحقيّة الموت قبلَ أحقيّة الحياة؛ ففي غزّة عندما يرتقي طفلٌ شهيداً للسّماء، لا يعلم ذلك الطّفل معنًى لكلمة صِراع، ولا معنًى لكلمةِ أرْض، ولا مترادفات الحقوق المهضومة، لكنْ، إذا ما تأجّل ارتقاء الشّهداء ليصبح ذلك الطفل إنساناً بلا أرض، وبلا دولة، وبلا هُويّة، فإنّه سيبحثُ عن أرضهِ الموجودة بمرْآه، وليست المتخيَّلة التي يرويها له الأجداد، أو تحكيها له كتب التاريخ المنسيّة. لن يُغلق ذلك الفتى أذْنيه ليصمت، وسيقاتل عن أرضٍ وعلى أرضٍ عاش فيها، واستُشهد مَن قبله مِن أجلها.
وليكبر ذلك الطّفل ليرميَ الحَجَر الذي قاتل به والده، ويحمل بندقيته رافضاً سياسةَ الحَجَر الهزيلة؛ فجاء ذلك الطوفان نتاجاً لحالةٍ من الذلّ والمهانة تُرفض أن تكون في معادلة الهزائم المشؤومة. جاء طوفان الأقصى ليفيض دماً وحريّة، وعلى ضفّة الطّوفان يقف الرّجل العربيّ باكياً مرّة، ومعاتباً مرّات بعد أن نفدت قرابين الطّاعة ليقدّمها للوحش الإسرائيلي الدّامي. وقريباً من الطوفان، وبعد أن غاب العرّافون نبحث عن نظريّة الموت المعاش، والدم المسال في حدود فلسفة الماضي القريب وهنا نستحضرُ المفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد، الذي كان يعيش في قلق الهُويّة؛ فسؤال من أي دولة أنت؟ كان يرهقه فقدّم ما يملي عليه عقله وعاطفته، كذلك نستحضر أستاذاً من أساتذة إدوارد سعيد، عالم الاجتماع ثيودور أدورنو Theodor Adorno ليفسّر لنا ما فعله الأحفاد بعدَ أن نظّر لما فُعِل بالأجداد.
أوسلو معادلةُ الدّولةِ المقيتة
بوضوح الشّكل كان منطلق إدوارد سعيد حول الصّراع من أجل الأرض بسيطاً بمعادلة قائمة على حدّ المساواة؛ إذ كان يطلب دائماً المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الأرض، والدّولة، والسّلاح، والإنسانيّة. وهذه المساواة أشبه أن تكونَ سراباً لا يمكن تصوّره. وإن أصرّ سعيد على المساواة في تكوينه الفكريّ، فقد كان في العديد من محاوراته الفكريّة مع الغرب ينطلق من مرجعيّة وجوب موت الكِفاح المسلّح، لذلك كان كثير الاستنكار لعمليات القتال من الطرفين، على حد وصفه، لأنّها لا تأتي بفائدة، وكذلك مرفوضة على الصعيد الأخلاقي.
من منطلق عدم المساواة والبحث عن الدّولة الفقيدة عانَدَ إدوارد سعيد اتفاقيّة أوسلو لأنّها تفضي إلى اللادولة، وتفضي إلى أن يعيش الإنسان الفلسطيني في زاوية بيته المسروق ينامُ تحتَ سقفه ولا يستيقظ. كان سعيد ينظر إلى أنّ أوسلو ستزيد القتل، وستزيد من إرهاب الدّولة المستكبرة المتعديّة، وسيكون القتل أكثر، والدّماء أشدّ، وذلك الحجر الّذي رفعه الشّاب الفلسطيني ليضرب دبابة، وحمله إدوارد سعيد مرّات كثيرة لن يظلَّ حجراً. وبعد ما يقرب لأكثر من ثلاثين عاماً صدَق خطاب إدوارد سعيد الذي لم يكن كلام نبوة، بل كلام أيّ إنسان عارف مدرك لغدر الغرب ومعادلة الدولة القوية، وكذبه في صدقه اتجاه القضيّة الفلسطينيّة، فجاء طوفان الأقصى كحالة طبيعيّة للقتل، والتهجير، والتّنكيل من قبل الأقوى المهيمن.
الحادي عشر من سبتمبر وطوفان الأقصى
إنّ سعيد كأي مثقف، لا يقدّم رأيه وفق حفنة من التّوقعات، بل إنّها دلائل ذات أبعاد إنسانيّة تتمثل بصراع إنسانيّ أشبه ما يكون بتعاقب اللّيل والنّهار أي إنّه صراع أزليّ إلهي، لا يزول؛ فبعدَ أكثر من اثنتين وعشرين سنة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي شكّلت حدثاً غير واقعيّ للمثقّف العربيّ في الغرب، وهو ما جعله يعيد طرحَ أسئلةٍ عن مدى العلاقة بين الغرب والشّرق، أو بين أيّ ثنائيّة أيدولوجيّة أخرى. كان العالم كذلك في دهشةٍ حدث غير متوقع؛ فقد قُتل الآلاف بهجمات على برجي التجارة في منهاتن الأمريكية، وطوفان الأقصى مشابه لذلك الحدث على الأقل في حدود الصراع والأسباب، أي أنّه كانَ نتيجة مدخلاتٍ هزليّة من السيّاسة الأمريكية مِن قتلٍ وتهجير في بلاد العرب والمسلمين، كذلك تأييد الموت الفلسطينيّ المستمر من قِبل إسرائيل، وعقوبات السّودان، وحصار العراق، وأحداث الصّومال، والجزائر، تلك المدخلات لن يولّد فرداً يهدي أمريكا وردة في عيد استقلالها المجيد؛ ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول صدمة عالميّة أشعرت إدوارد سعيد بتغيير المفاهيم، وكأنّ أمريكا ومن حالفها لم تعتبر من سياسات القهر، ليأتيَ طوفان الأقصى مولّداً حالة تشابهية في مدى التأثير؛ فكان نتاج الحادي عشر من سبتمبر أفيونَ قوّةٍ لأمريكا لتبسط نفوذها العالميّ، وتزيد من هيمنتها وتدمّر دولاً وتقتل وتهجّر في أفغانستان، والعراق.
ليكون السؤال متشابهاً: هل طوفان الأقصى إعطاء نفوذ لإسرائيل للانفراد في أن تكون قوّة إقليمية؟ نأتي بما كان قاله إدوارد سعيد، وما أورده على ألسنة المفكرين الغربيين: "التشاؤم هو نتاج العقل، أما التفاؤل فهو نتاج الإرادة". إذن خلاصة القول أنّ سعيد لو كان حاضراً لكان موقفه من طوفان الأقصى مشابهاً لما حدث في منهاتن وأنّ أهل غزة كانت إرادتهم قويّة فتفاءلوا ليصنعوا الطّوفان، أمّا التشاؤم فليذهب إلى البحر.
أدورنو وصناعة نرجسيّة الدّم
في المقابل، إذا أردنا تشريح نرجسيّة العدوان الإسرائيليّ، فإنّ العديد من المفكّرين الذين نظّر لهم إدوارد سعيد بوصفهم مفكري حالة وحدث، كان لهم تأثير في بيئاتهم التي عاشوا فيها منهم المفكّر وعالم الاجتماع الألماني ثيودور أدورنو، وهنا يمكن الحديث عن نظريّة أدورنو في صناعةِ الطّاغية؛ إذ تتلخص دراسة أدورنو والتي عنونها بـ"الشّخصيّة السلطويّة" أنّها نتاج تحليليّ سايكولوجي فكريّ لما حدث إبان الحرب العالميّة الثانيّة لتكون خلاصة أدورنو أنّ هناك ترابطاً عظيماً بين تركيب الشّخصية والدّعم المحتمَل لها لجعلها شخصيّة سلطويّة، أي إنّ أدورنو، الذي يُعرف بأنه ماركسيّ بصبغة خفيفة يرى أنّ الرأسمالية تُنتج شخوصاً ذات بعد كاريزميّ نرجسيّ، وهي نماذج للتباهي بها كما يخلق كاتب الرواية شخوصاً لروايته، وفي الصّراع الأخير إذا ما أردْنا نمذجة الشّخصيّة السلطويّة نجد أمريكا تحاول أن تنتج شخصيّة سلطويّة نرجسيّة تعشق الدم لتتلذّذ بما يحدث؛ فكان بنيامين نتنياهو وفق الغرب التسلطيّ فدعمته بالمال، والسلاح، والعتاد باحثة عن اللّذّة في القتل بالقتل، وكأنّنا أمام فيلم سينمائي لا غير.
فلو استُحضِرت دراسات أدورنو عن النّازيّة، سيثبت لنا أنّ أبناء جلدته، والذين بُنيت لهم دولة فاقوا النازيين بالقتل والإرهاب، وها هي الرأسمالية المقيتة والتي تسمّى أمريكا، تصنع شخصية نرجسية تتلذذ بالقتل، بل إنّ مصطلح IDF يذكّر بلذّة القتل داخل الإعلام الغربيّ، أي ما يسمّى جيش الدفاع الإسرائيليّ. وإذا أمكننا إسقاط نظرية أدورنو حول الشخصية السلطوية، يمكن إسقاطها كذلك على الدولة السلطوية المتمثلة بإسرائيل أي إنّ أمريكا خلقت إسرائيل للذّة القتل، وها هي حسرة القتل والدماء في غزة يتلذّذ بها الغرب في صحفه وإعلامه، بعيداً عن استديوهات هوليوود الزائفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.