بينما تصب إسرائيل قذائفها على رؤوس المدنيين في غزة لا يتوقف إعلاميون يحملون أسماء وجنسيات ومنابر عربية عن صب تخاذلهم في وجدان الشعوب العربية، على شكل كلمات أشد تدميراً وقتلاً من قذائف الاحتلال، لماذا؟
الإجابة في ذلك الشعور المتفجر بنشوة الانتصار يوم السابع من أكتوبر، والذي أعاد ذكريات الفخر والقيمة لكل إنسان رافض ومشمئز من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لأرض فلسطين الطاهرة، وما يفعله بشعبها ومقدساتها منذ عام 1948.
إن الانتصار المبهر الذي حققته المقاومة الفلسطينية في ذلك اليوم من خلال عملية "طوفان الأقصى" العسكرية لم يُرعب الاحتلال جيشاً وحكومة ومستوطنين فقط، بل زلزل كيان النظام العالمي بأكمله وأصاب استراتيجيته القائمة على دمج إسرائيل في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، وتشييع قضية فلسطين إلى مثواها الأخير.
فرحت الشعوب العربية أيما فرح بهذا الانتصار وباركته، وطالبت حكامها بدعمه والبناء عليه، بعد أن تمادى الاحتلال في غيّه وجبروته واستعلائه، وانعكس ذلك الفرح والفخر وتلك المطالبات على منصات التواصل الاجتماعي وفي مظاهرات عفوية هنا وهناك، في تدمير كامل لمسيرة تطبيعية كانت قد انطلقت بوتيرة متسارعة وموحية بأن "فلسطين" باتت من الماضي ولم تعد تلك القضية الوطنية الاستراتيجية الوحيدة التي تجتمع عليها الشعوب العربية قاطبةً من الخليج إلى المحيط.
وهنا جاء دور الإعلام الغربي في شيطنة المقاومة، ونزع عملية المقاومة من سياق القضية الفلسطينية، وكأن التاريخ بدأ يوم السابع من أكتوبر! أما في الوطن العربي فقد بدأت مسيرة "الهدم" لذلك الشعور بالانتصار، عبر التهويل من قوة إسرائيل وجيشها، والتحذير من "الانتقام" الذي ينتظر الفلسطينيين في غزة، والتقليل من "انتصار المقاومة"، عن طريق إعلاميين عرب يمتلكون ناصية "الكلام والخطابة"، متمرسين في توجيه الرأي العام.
إعلاميون وصحفيون يمتلكون الشاشات والصحف والمنصات ويطلون على الشعوب العربية ليلاً ونهاراً، كان عملهم الإجهاز على روح ووعي الشعوب التي استيقظت لتقف بجانب فلسطين، فصدرت لهم بدلاً من ذلك خطابات العدو التي تتوعد بالانتقام والتدمير، لتسكنهم وتنهي على شعور بالكرامة والكبرياء، فالأنظمة العربية تتحسس مسدسها عندما تجتاح هذه المشاعر شعوبها.
ولم تخيّب إسرائيل ظنَّ هؤلاء بطبيعة الحال، وأطلقت آلة القتل المدعومة أمريكياً وغربياً، تصبّ قذائفَها على رؤوس أهل غزة، وتهدم بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم، وتدمر شوارعهم ومدنهم ومخيماتهم، لكنها لم تنل من عزيمتهم ولا صمودهم ولا إيمانهم بحقهم المشروع في مقاومة الاحتلال حتى يتحقق النصر أو الشهادة.
لكن هذه القيمة الإنسانية التي لا خلاف عليها أصبحت هدفاً رئيسياً لكلمات هؤلاء الإعلاميين الذين يأتمرون بأوامر أسيادهم من أصحاب الكراسي الرئاسية والعروش الملكية، سواء هنا في منطقتنا أو هناك في الغرب في مقر "الرجل الأبيض"، الذي لم يترك المنطقة كمستعمر قبل أن يزرع فيها أذنابه المدافعين عن مصالحه.
استمر هؤلاء وما زالوا في تصدير الإحباط، يذرفون دموع التماسيح "ما ذنب أهل غزة الأبرياء كي يُقتلوا تحت أنقاض منازلهم"؟! لكن اللوم لا يقع على "القاتل" من وجهة نظر هؤلاء، بل يقع على "المقاومة"! يُغلّفون خطابهم بالواقعية، وهي في الحقيقة ما هي إلا خيانة للمنطق والعقل،
لماذا لا يلومون الاحتلال والداعمين الذين لا يحترمون القانون الدولي والمعاهدات؟ لماذا لا يستخدمون كلماتهم وعباراتهم الرنانة لحثّ أنظمتهم على التحرك بأقل السبل لحماية أهلنا في فلسطين بإرسال القوافل وفتح المعبر؟
يتشدقون بعبارات من قبيل "وما الجدوى"؟ لماذا "فتحت حماس قفص الوحش ليلتهم أهل غزة؟"، هكذا وبهذه العبارات تشدق أحدهم! وكأن "الوحش" –أي إسرائيل– كان محبوساً في قفص قبل طوفان الأقصى.كم مرة خلال السنوات الأخيرة تحدث هؤلاء الإعلاميون عن فلسطين أو غزة أو الضفة الغربية أو القدس أو المسجد الأقصى، قبل السابع من أكتوبر، في برامجهم وعلى منصاتهم؟!
أين كانوا من فلسطين قبل السابع من أكتوبر؟ أليس من المفترض أن عملهم ومهنيتهم تفرض عليهم متابعة ما يجري في المنطقة وحول العالم، فلا بد أنهم حتى كأشخاص كانوا يتابعون- ولو عبر وكالات الأنباء- ما يجري في فلسطين بأيدي جيش وشرطة ومستوطني الاحتلال من تهجير وتشريد واعتقال وقتل للأطفال والنساء والكبار والصغار بشكل يومي لا يتوقف. لماذا لم نسمع لهم صوتاً؟ أين كانت تلك الدموع؟ قبل أن يأتوا اليوم بدون أي منطق أو مهنية لتسليط برامجهم لمهاجمة المقاومة بشراسة ليلاً ونهاراً! ويسخرون من اليمن والحوثيين الذين يهاجمون سفن إسرائيل في باب المندب.
لا أعتقد أن أحداً منهم يُلقي بالاً لطفل فلسطيني أطلق عليه مستوطن إسرائيلي النار جهاراً نهاراً دون أي ذنب اقترفه ذلك الطفل، سوى أنه "فلسطيني"، ولم يكن هذا الطفل في غزة المحاصرة منذ أكثر من 17 عاماً، بل كان في الضفة الغربية، حيث لا تحكم حماس، بل السلطة الفلسطينية التي يُفترض أن تتولى "حماية" الفلسطينيين بطرقها السلمية وعدم إغضاب الوحش كما يدعون!
يتباكون ليلاً ونهاراً على أهل غزة، ويكيلون الاتهامات للمقاومة، ويفجرون في الخصومة معها لأنها رفعت شعار الشرف والقيمة.
إن طوفان الأقصى هو أهم انتصار فلسطيني منذ النكبة، ومعركته هي الأكثر وضوحاً بين الإنسانية وما سواها، بين الشرف وما سواه، بين الحق والباطل، وليس غريباً أن يختاروا التماهي مع بطش الاحتلال، فالمقاومة لم تُعرِّ أسطورة جيش الاحتلال الذي لا يُقهر فحسب، بل عرَّت كلَّ زيف الأنظمة العربية وأبواقها الإعلامية أمام الجميع. إذا لم تستحِ فقل ما شئت عن المقاومة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.