في مؤلفه الموسوم بـ"القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، الذي صدرت طبعته العربية سنة 2007 عن العبيكان للنشر، وترجمه إلى لغة الضاد محمد توفيق البجيرمي؛ يفكك الأكاديمي الأمريكي جوزيف ناي مصطلح القوة الناعمة، عن طريق إبراز دلالاته وأبعاده العميقة، ومقارنته بنقيضه، أي "القوة الصلبة". كما أسهب الكاتب في الحديث عن مصادر القوة الناعمة الأمريكية، والتي تجعل منها، في حسبانه، مغناطيس جذب لكثير من شعوب العالم.
دلالة القوة الناعمة
بحسب جوزيف ناي، فإن القوة الناعمة يُقصد بها الحصول على النتائج التي تتوخاها الدولة، من خلال ما يملكه نموذجها من جاذبية وإقناع، كبديل للغة الإكراه والابتزاز والرشاوى التي تقترن عادة بالقوة الصلبة.
وبتعبير أكثر وضوحاً، تهدف القوة الناعمة إلى "جعل الآخرين يريدون ما تريده"، عوضاً عن إرغامهم على إتيان سلوك معين عبر استخدام القوة الصلبة وحدها، التي وإنْ كانت ضرورية في السياسة الدولية، فإنها تظل غير كافية لتحقيق النتائج المنشودة. ولهذا استخدم المؤلف مصطلح "القوة الذكية"، الذي يُقصد به المزج بين القوة الناعمة ونظيرتها الصلبة، على نحو لا يضر بصورة الدولة ومصالحها.
وترتيباً على ما سبق، تكتسي القوة الناعمة أهمية بالغة في الرصيد المعنوي للدول، لا سيما في عصر العولمة والانتشار غير المسبوق للصورة والمعلومة، بالنظر إلى سرعة تداول وسائل الاتصال والإعلام العابرة للحدود الوطنية للدول، وهو ما يُحتم على الدول بذل جهود مضاعفة لكسب عقول وقلوب الناس. ومثلما يرى مؤلف الكتاب، لا مجال في عصر عولمة الصورة والمعلومة لتطبيق نصيحة المفكر الإيطالي نيكولا ميكيافيلي لحكامه في ذلك العصر: "من الأفضل أن يخافك الناس بدلاً من أن يحبوك"، إذ لابد اليوم من امتلاك القوة الناعمة، كوسيلة لأي دولة تريد فرض نفسها كقوة عالمية.
القيم والسياسات المتبعة كمصدر للقوة الناعمة
يذهب ناي إلى أن القيم السياسية والليبرالية، المتبناة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وسائر الديمقراطيات الأخرى في دول الغرب الصناعي، تجعل من النموذج الأمريكي، والغربي بعامة، مغناطيس جذب لشعوب العالم، ذلك أن قيم الديمقراطية، والحرية، وسيادة القانون، والتعددية، وغيرها من معايير المنظومة القيمية للحداثة السياسية، تفسر القوة الناعمة التي تتمتع بها أمريكا ودول الغرب الصناعي، لا سيما لدى الشعوب الرازحة تحت نير الاستبداد والطغيان.
بيد أن إعلان تلك القيم والجهر بها، يظل غير مجدٍ إذا لم تنسجم السياسات المتبعة -إنْ داخلياً أم خارجياً- مع تلك القيم، الأمر الذي يحتّم على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تلافي الوقوع في ازدواجية المعايير، والنفاق الذي يسِم عادةً السياسات الخارجية للغرب إزاء جملة من القضايا الدولية.
وكمثال على ذلك، يشير الكاتب إلى أن حقبة التمييز العنصري في أمريكا قد انتقصت من قوة أمريكا الناعمة بالنسبة للشعوب الأفريقية، كما أن استمرار العمل بعقوبة الإعدام، وإطلاق العنان لتجارة الأسلحة في بلاد العم سام، أضعَفَ قوتها الناعمة لدى الأوروبيين. وبمنطق المقايسة (وهو المثال الذي تغاضى عنه الكاتب فيما يخص قضايانا العربية) فإن الانحياز الأمريكي والغربي الفاضح لإسرائيل في عدوانها المتوالية فصوله ضد الفلسطينيين، أسهم في إضعاف القوة الناعمة الأمريكية الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
موارد أخرى للقوة الناعمة
يعرض الكاتب مصادر أخرى للقوة الناعمة، من أبرزها ما له صلة بثقافة شعب أو بلد ما، وهنا يمكن التمييز بين "الثقافة العليا" التي تتبناها النخب (الأدب والفنون والمسرح… إلخ)، و"الثقافة الشعبية" التي ترتكز على إمتاع وتسلية الجماهير (محلات الأكل السريع، الموسيقى الشعبية، منتجات هوليوود… إلخ). وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة لا تخلو من عناصر منفّرة (مشاهد العنف والجنس، النزعة المادية والاستهلاكية الجامحة… إلخ)، فإن الثقافة الشعبية هي عنصرٌ حيوي في القوة الناعمة لأية دولة، فمن بين أسرار الجاذبية التي تتمتع بها أفلام هوليوود لدى الجمهور العالمي، على سبيل المثال، أنها تروّج لقيم الفردانية ومقاومة المؤسسات التقليدية، وهي القيم التي تستهوي عدداً لا بأس به من شعوب الأمم الأخرى، وخاصةً في عصر ما بعد الحداثة، الذي تراجعت فيه هيبة السلطة وسطوة التقاليد المجتمعية الخانقة.
وعطفاً على ما سلف ذكره، تتوفر أمريكا -في نظر الكاتب- على موارد أخرى للقوة الناعمة، من قبيل الفرص الاقتصادية التي توفرها للمهاجرين الوافدين إليها، وإنتاجاتها الضخمة من الأفلام والبرامج التلفزيونية، ناهيك عن منحها تأشيرات ومنح للطلبة القادمين من الخارج، إذ تلعب المبادلات الأكاديمية والعلمية دوراً كبيراً في الترويج لصور إيجابية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وخلق نخب متعاطفة معها، لا سيما في الدول غير الحليفة لأمريكا والغرب، مثل الصين وروسيا وإيران.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.