يمتد التاريخ البشري عبر عصور طويلة، تتخللها أحداث عدة، أغلبها ليس ذا قيمة أو لم يتسنّ ذكره أو سقط سهواً من مذكرات مؤرخ، إلا أن التاريخ يحفل بأحداث ذات أهمية قصوى، أحداث غيَّرت ما بعدها.
أحداث مفصلية بتأثير إقليمي غالباً ودولي بعض الأحيان، فلا يمكن أن ننسى سنة 536م، باعتباره أسوأ عام مر على البشرية؛ إذ انتشر الضباب على طول القارة الأوروبية وشمال أفريقيا، ووصل مداه إلى الصين، وحُجبت الشمس لستة عشر شهراً، وهلكت الماشية والزرع وملايين البشر.
كما لا يمكن إغفال معركة ذي قار 610م، التي غيَّرت تاريخ الجزيرة العربية برمَّتها، فحتى مع هزيمة العرب، بقيادة بكر بن وائل أشهر قبائل العرب، إلا أنها حطمت صنم الفرس في قلوب العرب، ومهدت لانتصارهم المستقبلي الذي أصبح صوب أعينهم، وهذا ما حدث بالضبط بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كانت الفرس تتحكم في رقاب العرب، وتضع عليهم مَن يحكمهم، وتفرض عليهم الضرائب، وتغصبهم على الجزية، وهكذا تفعل الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بالدول العربية اليوم، وهذا لا يخفى على أحد، ولا يحتاج منا لإيضاح.
بيرل هاربر التي غيَّرت كل شيء
وكما تحطَّم صنم الفرس بالأمس، تحطم صنم الغرب اليوم، على أن هذا التحطم أو السقوط بدأ قبل اليوم، إذ إن اَسيا، وهي جزء من العالم الثالث، استطاعت التخلص من صنم الغرب على يد مقاتلي "الكاميكاز أو الرياح الإلهية" اليابانيين في موقعة بيرل هاربر 7 ديسمبر 1941، ولمحاسن الصدف -أظن أن حماس استلهمت التجربة- تشابهت الواقعة في شتى معالمها بطوفان الأقصى.
فإذا عدنا للعامل، فاليابان كانت قد ضاقت ذرعاً بتهجم الولايات المتحدة على تجارتها، وتماديها في استفزاز اليابان، وكذلك الفلسطينيون مع الكيان، وإن عدنا للقاعدة الأمريكية فهي تَمثّل واضح لدولة الاحتلال الإسرائيلي، التي لا تعدو كونها قاعدة أمريكية في المشرق العربي.
وإذا قارنا طريقة الهجوم، فهي متشابهة إلى قدر كبير -مع ضرورة استحضار كون حماس تنظيماً واليابان قوة عالمية- إذ اعتمد اليابانيون على الهجوم الجوي، وبالأخص على مقاتلين فدائيين، نفس الأمر بالنسبة لحماس، فلولا الفدائية والتجارة مع الله لما نجح "الطوفان".
كما أن يوم سبعة حاضر في كلتا الحادثتين، بالإضافة إلى توقيت الصباح الباكر، فقد اختار قادة حماس توقيت الهجوم بعناية فائقة، تشابه مع هجوم اليابانيين.
كانت بيرل هاربر، وتصاعد القوة اليابانية الصفعة التي أيقظت التنانين الآسيوية، وأعادت لأذهان الإنسان الآسيوي أمجاد أجداده، وهكذا وبالتدريج، أصبحت الدول الآسيوية تقف "الند للند"، بل تتفوق على الغرب بأسره، كما تفعل الصين حالياً، فمن هذا الغربي الذي كان يتوقع أن ينتصر عليه الأسيوي الهزيل؟ لا أحد.
لندرك قوة تأثير اليابان على مشاعر الغرب، نتأمل كيف ختمت الولايات المتحدة صراعها مع اليابانيين، إذ ستعمل على إلقاء القنبلتين الذريتين، كرد فعل جنوني على قوة الشرخ الذي أحدثه اليابانيون، ولسان حالها يقول: "لقد تجرأتم على أسيادكم، وستندمون أشد الندم"، وهذا الجنون هو نفسه ما حدث معها بعد "طوفان الأقصى"، فوجدناها تسارع لإرسال جنودها وتحريك حاملات الطائرات، ودعم تدمير غزة وإبادة سكانها.
غزة التي غيَّرت كل شيء
دون أدنى شك ضربت حماس أمريكا -لا إسرائيل- في مقتل، فناهيك عن الهجوم الذي أمكن مجاهدي حماس من الوصول إلى قلب الكيان، والالتحام مع الجيش الإسرائيلي من المسافة صفر، وتكبده خسائر كبيرة في الجنود والعتاد، بالإضافة إلى أسر المئات من المستوطنين والجنود، استطاعت حماس خداع المخابرات (الأفضل في العالم)، فلا هي عرفت بخطة الطوفان، ولا كشفت مكان الأسرى.
والأدهى أنها وقعت فريسة لمخابرات حماس، التي أوهمت المخابرات الإسرائيلية بوجود قاعدة عسكرية تحت مستشفى الشفاء، الأمر الذي أحرج الكيان أمام العالم، بل رفع منسوب الكراهية تجاهها، وهذا نجاح اَخر لا يقل أهمية عما ذكرنا، فالعالم اليوم ليس هو عالم قبل الطوفان، فالغربيون اكتشفوا أخيراً زيف الادعاءات الصهيونية، وتأكدوا من كون هذا الكيان يمارس الإبادة في حق العزل، ويعقر الشجر ويهدم الحجر.
لم تعد البكائيات تنطلي على الجمهور الغربي، الذي خرج بمئات الآلاف في بريطانيا وأيرلندا وأمريكا مندداً بالعدوان الصهيوني، بل أصبحت هناك ظاهرة لم نشهد لها مثيلاً، وهي دخول المئات في الإسلام بعد تأثرهم بصبر أهلنا في غزة.
إذ لم يفهم الغربيون كيف يخرج رجل من تحت الأنقاض، وقد استشهد كل أهله، وهُدم بيته ودُمرت حارته، رافعاً يديه إلى السماء، صارخاً بأعلى صوته: "الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله"، وتساءلوا: كيف يحمد هؤلاء الله وهم يقتلون ليلَ نهار؟
لقد اعتاد الإنسان الغربي أن يكفر بالله، بعد أن يرسب في الجامعة، أو أن يطرد من العمل، ولم يعد الله موجوداً إلا داخل الكنيسة التي لا يزورها إلا قليلاً، وها هو يقف مذهولاً أمام إيمان منقطع النظير، ويقين بالله لم يشهد له مثيلاً.
اليوم ندخل مرحلة جديدة من الصراع مع الغرب، في هذه المرحلة تحطم لصنم الغربي في قلوب المسلمين، وأصبحوا أكثر إيماناً بقدرتهم على المقاومة والمواجهة، وعلى الصناعة العسكرية التي كانت تبدو وكأنها ضرب من الجنون، فها هي قذائف "الياسين" تدك الميركافا، وها هي طوربيدات "العاصف" تفجر السفن المتاخمة، وها هم المجاهدون الحفاة يشتبكون من مسافة صفر ويزرعون القذائف فوق الدبابات، بل يصلونها طازجة "ديليفري" إلى باب المركبات.
هل تعتقد أن هذه المشاهد العظيمة وهذا التكتيك الذي وقف في وجه الكيان وأمريكا لشهر ونصف لن يغير شيئاً؟
هل يمكن للغرب أن يقتلع ذكرى الطوفان من مخيال المسلمين والعالم؟
خاتمة لا بد منها:
حتى لو نتج عن العدوان الغاشم اقتلاع غزة من الجذور وإرسالها بمن فيها إلى الفضاء الخارجي، فلن يغير ذلك من نتائج الطوفان، فالتغيير القادم، حدث صباح السابع من أكتوبر، في ثوانٍ معدودة تغيَّر كل شيء، ودار الزمن دورته، وأعلن عن بداية عصر جديد، حتى دون الحاجة إلى حرب الشوارع التي تقودها كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، هذه الأخيرة يجب أن تأخذ حقها من المديح، وهي شريك أساسي في صناعة التاريخ، شأنها شأن الحوثي الذي يخلق بعملياته ثغرة تتنفس منها المقاومة.
إن "طوفان الأقصى" هو بداية عصر جديد، وإيذان بعودة المسلمين لحكم العالم، وإعلان لموت النموذج الغربي الذي أعتقد في يوم ما أنه خالد، وها هي غزة تحفر قبره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.