بعد أشهرٍ من انتظارها في درج مكتبي، وفي ظل هذه المأساة التي تحدث اليوم في أرض فلسطين البعيدة عن بلادي كثيراً، شعرت كلما دخلت غرفتي أنه قد حانت اللحظة المناسبة لاستكشاف صفحاتها. أنهيت قراءة رواية "الطنطورية" للكاتبة المصرية رضوى عاشور أمس.كان لهذا اللقاء الأدبي وقع شديد التأثير على قلبي، كونه أتى خلال هذه الأيام المأساوية، فأعداد الشهداء الفلسطينيين لا تتوقف عن الازدياد.
عندما بدأت أخطو في أرض فلسطين بعيني من خلال الرواية، شعرت أني أعرف تلك البلاد جيداً، رغم أنني لا أجيد حتى التكلم بلغة شعبها، ربما لبراعة السيدة رضوى عاشور في جعل الرواية تظل مرجعاً حيّاً يُذكِّر أجيالاً بأهم الأحداث التي جرت في فلسطين، والأحداث التي جرت تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي.
تقع قرية الطنطورة كجوهرة فلسطينية على الشاطئ، تحيط بها شمالاً حيفا وعكا، وجنوباً يافا وقيسارية. تأتي الطنطورة هنا لا كمجرد قرية، بل ككتاب مفتوح يحكي تاريخ فلسطين بألوانه المختلفة، ما بين صفحاته المشرقة والمظلمة.
تفتتح نغمات الرواية بلحن الفرح في فصلها الأول، لكن سرعان ما يتلاشى، ويحل محله الفقد والألم، فالاحتلال الإسرائيلي يظهر كظلام فيغطي البلدة، وتبدأ معاناة رُقَيّة بفقدان والدها وأخيها.
تتداخل المشاعر في قلب الحكاية، بتصاعد الألم مع كل تفاصيل الاحتلال. تنطلق رقية في رحلة صعبة، من محنة مقتل أحبائها إلى الهروب إلى لبنان، حيث تجد الدعم والحنان في زواجها من الأمين، ابن عمها. تُمنح رقية فرصة للحياة وتبني عائلة تتألف من 3 أبناء وطفلة صغيرة تجد فيها الرعاية والحنان.
تنطلق الأحداث بعد ذلك لتحكي لي فترة قمع المخابرات والجيش اللبناني للمخيمات في الخمسينيات. يأتي بعدها تصاعد النفوذ الفلسطيني بعد تنظيم العمل الفدائي إثر نكسة عام 1967. ثم تنقلب الأمور بالكامل عام 1970 بعد خروج جهة التحرير من الأردن بسبب "أحداث أيلول الأسود". يلي ذلك الاحتقان السياسي الذي يؤدي إلى اندلاع حرب لبنان الأهلية في 1975، مما يفجّر سلسلة من المجازر والمعارك، بما في ذلك الأحداث المأساوية في دامور والكارانتينا، وتقسيم بيروت إلى مناطق شرقية وغربية.
تتوالى الأحداث المأساوية بعد ذلك، مع اجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982. فيبدأ العذاب الحقيقي مع وصف حياة الأسرة في ظل الحرب، حيث يعيشون في الملجأ ويشهدون رعب الانفجارات وموت الأحباء.
لقد اجتاحني هنا الرعب والخذلان، فمع قرأتي للرواية بالتوازي مع مشاهدتي كل يوم لمقاطع فيديو لموت الأبرياء في غزة، استطعت أن أدرك مدى قسوة الحاضر والماضي لهذا الشعب، وتعجبت أشد العجب لقدرة الفلسطينيين اليوم على الوقوف ومجابهة الحياة بكل تلك الروح والشجاعة.
لقد عشت مع الرواية كفلسطيني، أسمع دويّ الانفجارات، وأرى رعب الأطفال الذين قُدر لهم معاينة كل هذه الأهوال. شعرت مع رقية وأمين والأولاد أن الموت كان على بُعد سنتيمترات قليلة مني.
أصبحت أفكر كفلسطيني، وتصيبني نفس حيرته، وسألت نفسي: هل أنا محظوظ أم لا، عندما تدمر القذيفة البناية المقابلة لبنايتي؟ نعم، لقد نجوت مرة، لكني ربما سأشهد أفراد عائلتي وجيراني وأصدقائي يموتون الواحد تلو الآخر في مقابر جماعية أو فردية، بعضها معروف وكثير منها مجهول.. ألا يسمى ذلك موتاً أيضاَ؟!
أحداث بعد أحداث بعد أحداث، تختلط فيها سيرة رقية الطنطورية بملحمة فلسطين كلها، لتختم أحسن ختام بمشهد نهاية انتزع دموعي رغماً عني، هناك عند الأسلاك الشائكة في الحدود بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، عندما تسلم رقية مفتاح منزل الطنطورة لحفيدتها الرضيعة، كدلالة على استمرار الأمل في العودة، مهما توالت الأعوام، ومهما بدا لبعض اليائسين أن القضية ماتت ودُفنت إلى الأبد.
لقد احتلتني تلك الرواية بأسلوبها، إذ تمتعت بأسلوب سرد تاريخي شيق، جعل الكتابة عملاً ممتعاً، حيث تتداخلت الأحداث الواقعية مع القصة الخيالية لشخصيات الرواية، ما خلق عالماً أشعرني للحظات بأن رقية وأولادها كانوا موجودين وقريبين مني. إن هذا العمل الفني هو أرشيف للأحداث التاريخية التي مرت بها أرض فلسطين، هذه كتابة تليق بالقضية إذ توثق للأجيال القادمة قصة هذه الأرض بشكل عميق. إذ استطاعت تلك الرواية الحفاظ على تاريخ فلسطين، حيث طَوَعَت الاتجاه السياسي لا ليظهر مباشرةً إنما ليأخذ الصورة الأدبية التي تحميه من التحول إلى عمل سياسي محض.
لقد أخذتني الطنطورية لتضعني في فلسطين وتروي عن الأفراح والأحزان لهذه الأرض، أخذتني برحلة عبر الزمن لأعود وأفهم لحظات الحاضر، لأعيش بكل قلبي انتصارات هذا الشعب الباهرة وهزائمه المؤلمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.