تتسارع الأحداث وتتعاظم يوماً إثر يوم، والعمر يجري بسرعة كبيرة ليس كأي وقت، تَخُطُّ أقلامنا بعضَ ما يجري بغزة، لكن المشهد يختلف غداً فنعود لنكتب آخر، فيختلف بعد ساعات، وهكذا.. لا نجاري تواتر هذه الأخبار، فهل من طريقة لوقف عجلة الحرب؟
إنَّ تسارعها يصيب بالغثيان، ويُنبئ بالموت القريب، حيث أصبح الموت سهلاً سماعُهُ، ورؤيته، وكذلك تعاطيه.
دولة الاحتلال لا تعبأ بعدد القتلى ولا بالكيفية بسبب عجزها لا بسبب قوّتها، القوة في المواجهة وليس في قتل الأبرياء، ماذا سيبقى في قلب هذا الجيل؟ ماذا يحاولون فعله بذاكرتهم؟ هل يتوقون لهذا التدمير مرات ومرات؟ يظنون أن الخوف سوف يتلبس قلوب شبابنا، لا يعلمون أن حياتهم في كرامتهم، وشهادتهم أحب إليهم من حياة بدون عزة.
في المقابل نجد الاحتلال الإسرائيلي لا يعبأ بأي أعراف أو مبادئ، فتجده لا يعرف غير الدمار والموت من أجل الهروب من فنائه، فلا يأبه بأرواح جنوده حتى، فنجده يستخدم بروتوكول "هانيبال"، الذي يجيز له قتل أسراه لدى الجانب الآخر حتى لا يكونوا وسيلة ضغط عليه إذا أُسروا، هكذا يتعاملون مع الحياة.
إن تلك الهيستريا والرؤية القاصرة للحياة لدى الاحتلال هي التي تدفعه لترصد قتل الأبرياء بأبشع الصور وأكثرها وحشية، ولذا فأخبار الحرب والدمار تستجدي الوقت في كل مرة، والسرعة التي تحدث بها هذه الأحداث ليست طبيعية، وكأنها مجبولة على التعجيل، فما نكاد نستوعب مجزرةً إلا وتأتي الأخبار بمجزرة أخرى، ثم الوعيد بغيرها.
ذلك بالتوازي مع فرض التهجير القسري على الشعب الفلسطيني كطريقة أخرى للقتل، لكن أقل بطئاً.
فكرة التهجير لم تبدأ بعد يوم السابع من أكتوبر، بل كانت مطلباً أساسياً قديماً لتفريغ غزة وفلسطين بأكملها من سكانها، فلطالما كان ذلك أمنية قديمة لقادتها، خصوصاً رابين وشارون؛ إذ كانوا يحلمون بالتخلص من غزة بالغرق أو أن يبتلعها البحر، وقد عملوا على تحقيق تلك الأوهام.
رغم ذلك، وكعادة غزة، بقيت صامدةً في وجه العدوان، حتى إن شارون صاحب نظرية "الصدمة سبيلاً للردع" كان يعتقد أن القتل والتدمير سبيل لتثبيط المقاومة، إلى أن تم إجباره على الانسحاب من غزة وفك المستوطنات بها، وتنفيذ خطة "فك الارتباط" عام 2005، ما أعطى مساحةً للمقاومة، من حينها بدأت لعنة غزة تطاردهم.
تتوق غزة للحرية والخلاص من الاحتلال، لذلك نشهد اليوم تسارع الأحداث على أرضها، ونندهش كل يوم لكل هذا الكم من المقاومة والشجاعة، في مقابل الهمجية والبشاعة، نرى العالم بكل تناقضاته في غزة، حقائق جديدة لا يمكن حصرها وتناولها معاً، فكل حدثٍ يحتاج إلى مجلدات من فهم الإنسانية ومشاعرها، وكأن غزة تحترق اليوم من أجل أن يفيق العالم من وهم الإنسانية الزائفة الذي يغرق فيه.
في شوارع غزة تتسارع أحداث القتل والتدمير، إذ تتفتّت كل سبل الحياة، فبيوت وشوارع كانت في الأمس القريب تمتلئ بالحياة يهبط عليها شبح الموت فيتسارع الجوع والعطش للفتك بمن لم تهلكه صواريخ الاحتلال، وبينما تمتلئ مدن الدنيا بالكهرباء يخيّم الظلام على غزة. أمام كل ذلك لا تتسارع أيدي الإنقاذ والمساندة، بل تتسارع الاجتماعات والنداءات بوقف عنف الاحتلال، وتتسارع أعداد الشهداء، إن الأحداث سريعة للغاية في غزة كبقية مدن العالم، لكن بشكل مختلف؛ إذ تتوالى المآسي والحكايات المروّعة، ومن الصعب إيقافُها، حتى إنَّ منظر شحنات الأغذية والكساء وغيرها أصبح أملاً يصعب استمراره مع تسارُع الإجرام.
لا نكاد نبصر حدثاً حتى نُفاجأ بغيره، وهكذا لا تمر دقيقة إلا بخبر جديد يغري الكاتب لتناوله وتحليله، الأفكار تتشابك، والرؤى تختلط وتتداخل، ثم تتشوه، فالخبر والخبر المضاد يلقي قتامة على وضوح وصدق الخبر السابق، وهكذا هي حرب شاملة وعامة، قتلُ الأطفالِ فيها هو الأوضحُ والأكثرُ شناعةً وظلماً وعدواناً، هو الموضوع الذي يُشاهَد رأي العين ولا يخطئهُ النظر.
تتسارع عجلة الحرب على غزة بينما يلتفّ العجز حولنا، فلا نستطيع ردعها وكأنها عجلة هلامية لا يمكن إدراكها، الغريب أن وحشية الاحتلال ليست جديدة علينا، إذ كانت دائماً في الذاكرة، لكننا نمهر أدمغتنا أحياناً بالنسيان، نختم عليها قبل أوان تصديرها وحفظها في ملفات الذاكرة الحية.
فكم قرأنا التاريخ المخزي للاحتلال منذ 1948، وكم حكاية رُويت لنا في طفولتنا عن ثأرنا المنتظر، إذ لا يمكن أن ننسى كيف تربَّينا في المدرسة على حب فلسطين "فلسطين داري ودرب انتصاري، تظل بلادي هوى في فؤادي، ولحناً أبيّاً على شَفتيَّ، وجوه غريبة بأرضي السليبة، تبيع ثماري وتحتل داري، وأعرف دربي ويرجع شعبي، إلى بيت جدي إلى دفء مهدي، فلسطين داري ودرب انتصاري"، وغيرها من الكلمات التي تربّينا عليها ودخلت في أذهاننا، لكن- كما قلت- تخوننا الذاكرة دائماً، فربما تناسينا كل ذلك مع الحياة، أو ربما اعتدنا على سماع النَّكَبات وكأنها أخبار ليست بالجديدة، وكأنها أخبار عادية تأتينا بين فترة وأخرى، لتذكّرنا بعجزنا ليس إلَّا.
لكن ما يحدث في غزة اليوم لن يُنسى؛ إذ تأتي المآسي وتذهب، ثم يأتي غيرُها في الصباح الباكر، بل لا نكاد نصبح حتى نفزع على مجازر ارتُكبت بدمٍ بارد مع سبق الإصرار والترصُّد، تتغير وتتجدد المآسي كلَّ يوم في غزة، ولا يتغير عجزنا.
نتابع فقط وكأنه مسلسل يومي، نسمع عن تفجير دبابات المحتل وقتل بعض جنوده فنفرح قليلاً فرحةً هشة، ثم تأتي صور أطفالنا والموت يطوّقهم لتذكّرنا مرةً أخرى بعجزنا، وخذلان العالم.
فالعالم يشهد وحشيةَ الاحتلال الذي يغرز أنيابه وآلته المدمرة بإبادة المستشفيات والمساجد والمنازل والمدارس والبنى الأساسية في غزة، وكيف تضمحل فرص النجاة.
غزة حيث تَحصُد غارات الاحتلال بسرعة وبدون توقف أرواح الأبرياء، بينما يساند العالم هذه الوحشية، بالصمت أحياناً وبالدعم المباشر أحياناً أخرى.
إن الأحداث في العالم سريعة، لكن الموت في غزة أسرع من أي شيء، لدرجة أنه لا يعطي فرصةً حتى لدفن الموتى، أو البحث عن أجسادهم. يتسارع الدمار بينما تتضاءل فرص النجاة، فالاحتلال يُمعن كثيراً في إزهاق الأرواح البريئة، ويعتبر حربَه عليهم من ضرورات الحرب على المقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.