في حواره مع وكالة رويترز وبعد خروجه من المعتقل قدّم الشيخ أحمد ياسين خارطة طريق واضحة المعالم في الصراع العربي الإسرائيلي، ففي عام 1997 صرَّح الشيخ: إنَّ حركة حماس بوصفها حركةً تحرريةً تُؤمن بضرورة تلاشي الاحتلال وقيام دولة فلسطينية، ولكنها في الوقت نفسه تؤمن بحل الدولتين، أي قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وهذا الرأي لا يحمل تبعيات الهزيمة بقدر ما يحمل عنصر انتصار، فموقف الشيخ هو موقف الحركة منذ نشأتها، أو تحديداً بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
بعد التصريح الشديد قوبل كلام الشيخ بأنه نوع من انهزام المقاومة، وأن الاحتلال وجب أن يزول عن كامل أرض فلسطين. جاء اغتيال الشيخ وعدد من قادة حماس ليؤكد أن المقاومة وأدبياتها في اختلاف، فالمجد للبندقية والدم، وليس للقلم والحبر، فاتضح ذلك من اغتيال قادة الحركة، وتبين أن الموقف السياسي نحو قيام حل الدولتين هو حدث انهزامي للكيان المحتل، وما كان هذا الموقف إلا ليحدث مناورة سياسية في وجه السياسة الدولية التي عرفت الإرهاب وقرنته بالمسلمين.
بعد عشرين عاماً من كلام الشيخ، وفي مايو عام 2017، جاء ما يسمى بوثيقة حماس؛ إذ وضعت فيها مبادئ الحركة، وجاء في أحد بنودها، وبالتحديد تحت عنوان: الموقف من الاحتلال والتسوية السياسية: "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين… ومع ذلك- وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة.
الوثيقة جاءت بعد تغيير ديمقراطي وانتخابات على مستوى القيادة، جاء يحيى السنوار مهندس الطوفان ليكون رئيساً للحركة في الداخل، وبين الوثيقة وكلام الشيخ لم تُظهر إسرائيل أية تطمينات لوثيقة حل اللاجئين، بل زادت تهجيراً وبناءً للمستوطنات، وتدنيساً للمقدسات.
من تصريح الشيخ إلى الوثيقة ظهر موقف حماس بوصفه حالة مراوغة لا حالة موقف، وما الحروب التي خاضتها حماس مع المحتل إلا إثبات أن وجود دولتين هي مخيلة دولية وخرافة هزيلة، فلسطين ستكون للفلسطينيين، فمن أبى فلينتظر الطوفان.
فجاء الطوفان ليكسر كل مراوغة سياسية هزلية ومرجعية تسلُّط مقيتة، مثبتاً أن الأرض السليبة لا تُسترجع بطوفان ماء، ولكنه طوفانُ الدم الذي لا تحتاج هدأته آلاف القرابين؛ لأن من أفاضَهُ محتلٌ غادر يحتالُ بقوته نحو مجتمع دولي تهيمن عليه أمريكا، ويختال بهيمنته أمام ضعف عربي محكوم بجثامين لا تستيقظ إلا إذا حرك شاهد عرشها الدفين، يظل سؤال ما بعد الطوفان مؤرقاً، ومن الأرق تظهر سيناريوهات الحدث، لتكون الإجابة في تحليلات تجمع العاطفة والأمل مع الواقع المرير.
معظم محللي سيناريوهات ما بعد الطوفان ينظرون إلى حالة غزة الوجودية وحالة المقاومة وعلى رأسها حماس، فإسرائيل لديها اعتباران لوصف قطاع غزة: حماس هي غزة، وغزة هي حماس، وبذلك يكون سيناريو الأرض المحروقة هو ما يهيمن على الحرب، ورغم حدوث هدأة على شكل هدنة نرى الآن الكيان يسترجع حالة الأرض المحروقة، متوعداً بالقضاء على حماس؛ أي القضاء على غزة.
ومع عودة الهجوم يمكن قراءة ما بعد الطوفان وفق سيناريوهات أربعة: سيناريو ظهر الدبابة المقلوب، سيناريو النجاة على حافة الوادي، سيناريو الجثة الهامدة، وآخرها سيناريو الصفقة الملعونة.
وأول فرضيات الدخول إلى غزة هو ظهر الدبابة المقلوب؛ أي انتصار هزيل للكيان ووقف القتال مقابل دخول من تريد إسرائيل له أن يدخل، مثل قوات أممية، أو قوات عربية منزوعة السلاح، وقتها سترضى بذلك مؤسسات المجتمع المدني حقناً للدماء مع بقاء وجود حماس السري، السيناريو الآخر سيناريو الجثة الهامدة المستوحى من المثل العربي "لن تدخل إلا على جثتي"، والذي يعد أبرز سيناريوهات ما بعد الطوفان، أي القضاء على قوة حماس القتالية، ولكن مع بقاء قوة حماس العقدية التي لا تزول. وهذان السيناريوهان مستبعدان على الصعيد اللوجستي، وما ينفي ذلك هدنة السبعة أيام، والتي مهدت لفرضيات وقف القتال بهدنة أكبر، وخروج الأسرى الإسرائيليين بتكلفة دماء أقل، ليظهر لدينا سيناريو ثالث.
السيناريو الأقرب لما بعد الطوفان هو سيناريو النجاة على حافة الوادي، أي هدنة مؤقتة قابلة ألا تتجدد، وهذا السيناريو الأقرب في عيون السياسة الداخلية الإسرائيلية؛ فهدنة بضمانات إسرائيلية تقترب فيها إلى عقد صفقة تبادل ترضي المقاومة بوصفها ممثل الشعب الوحيد، فبعد حالة الانتقام التي عاشتها إسرائيل وشيء من السيطرة الخفية، وجب أن تهدأ الأرض المضطربة، وترضى إسرائيل بسكرة مالحة.
إذن، ثلاثة سيناريوهات: ظهر الدبابة المقلوب، الجثة الهامدة، النجاة على حافة الوادي، السيناريو الأخير يحتاج لفترة زمنية طويلة، ولكنه مُشاهد على الأرض، يجمع بين تطلعات صفقة القرن، والرد الإسرائيلي الغاشم، أي إخلاء منطقة شمال غزة، وتهجير أهلها إلى جنوب وادي غزة، واعتبار الشمال أرضاً إسرائيلية، وبالمقابل سيكون لأهل غزة أرض صناعية وزراعية على حدود سيناء جنوب منطقة النقب، وهذا سيناريو صعب، لكن قد يكون مقروءاً على الأرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.