كيف تفوقت حماس إعلامياً وكسبت المعركة على منصات التواصل الإجتماعي؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/12/01 الساعة 11:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/12/02 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
تسليم الأسرى الإسرائيليين لدى حماس للصليب الأحمر/ الشبكات الاجتماعية

بعد اندلاع حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول بين فلسطين وإسرائيل، التي بدأت وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار الأسبوع الماضي، كان أحد أكثر الموضوعات تداولاً في جميع أنحاء العالم هو مقاطع فيديو الأسرى الإسرائيليين المحررين من جانب حركة حماس، التي اتّبعت حقاً نهجاً ناجحاً للغاية في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي منذ الأيام الأولى للحرب. بعد مشاهدة تلك الصور ومشاركتها على نطاق واسع، بدأ حالياً مناقشة جانب مهم آخر من الحرب على نحو أكثر جدية، ألا وهو وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرات الرأي العام المصاحبة لها. حققت حماس نجاحاً كبيراً في هذا الجانب أثناء الحرب بينما افتقدت إسرائيل إلى الفعالية والقدرة على التأثير. ومع ذلك، لم تكن حركة حماس تحقق دائماً مثل هذا النشاط والنجاح على وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك مسار وعدد من التطورات أفضت إلى هذا النجاح. دعونا نلقي نظرة سريعة على هذه التطورات، التي جعلت حركة حماس قوة رئيسية في وسائل الإعلام الجديد حالياً.

تغيير لهجة الخطاب 

أصدرت حركة حماس، التي تأسست عام 1988 بهدف استراتيجي يتمثل في تحرير فلسطين من الاحتلال واستعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة وإقامة دولة فلسطينية على كافة الأراضي الفلسطينية التاريخية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، ميثاقاً عند تأسيسها يتضمن مادة مهمة تخص موضوع هذا المقال. تشير المادة 15 من الميثاق التأسيسي لحماس إلى أنَّ "العدو عندما يستولي على جزء من أراضي المسلمين، يكون لوسائل الإعلام المرئي والمسموع دور ومسؤولية مهمة في دعوة الجماهير وحثّها على الجهاد والمقاومة ضد العدو. تؤكد حماس في ميثاق عام 1988 أنَّ المقاومة لا تعني الاقتصار على استخدام السلاح ضد العدو وتنظر إلى الإعلام من منظور أوسع يشمل النضال في المجال الفكري". يبين هذا الخطاب أنَّ حماس أولت أهمية كبيرة للإعلام منذ تأسيسها.

حماس
حركة حماس

ومع ذلك، اللهجة القوية الحادة التي استخدمتها حماس بعد تأسيسها مباشرةّ بدأت تتغير بعد وصولها إلى السلطة في عام 2006. بدأ الخطاب الإيديولوجي العدائي لحماس يتغير ليفسح المجال أمام توجهات تركز على المصالح الوطنية. أصبحت الأنماط الدينية القوية في الخطابات الحمساوية أكثر واقعية بعد توسع الحركة في الساحة السياسية. لذا، يمكن القول إنَّ حماس تبنت لغة خطاب أكثر واقعية واعتدالاً مقارنةً بفترة تأسيسها. انعكس ذلك أيضاً في استخدام الأدوات الإعلامية وقد توسعت  دائرة جمهور حماس كنتيجة طبيعية لذلك. 

بعد عام 2021، قد نرى بمزيد من الوضوح النوايا الجادة لحماس ونجاحها في استخدام أدوات الإعلام الجديد. على سبيل المثال، أجاب نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك، إسماعيل هنية، على أسئلة العديد من الدول عبر هاشتاغ "AskHamas" (اسأل حماس)، الذي أطلقته الحركة في عام 2015 على وسائل التواصل الاجتماعي دفاعاً عن الشعب الفلسطيني وضد تصنيف الحركة "منظمة إرهابية" في بعض الدول عقب قرار قضائي مصري بتصنيف حماس منظمة إرهابية. أعلنت حماس، التي استطاعت جذب انتباه مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بهذه الممارسة، عن "ورؤيتها ووثيقة سياستها الجديدة" في 1 مايو/أيَّار 2017 في مؤتمر صحفي عُقد بالعاصمة القطرية الدوحة، وبذلك أصبحت أكثر توافقاً مع أدوات الإعلام الجديد. يتمثل العنصر الأول اللافت للنظر بالوثيقة في تغيير لغة الخطاب تغييراً كبيراً. بينما استندت كل مادة في ميثاق 1988 إلى آيات من القرآن الكريم، بدت الوثيقة الجديدة لحماس أقرب إلى نص سياسي مع نهج أكثر دبلوماسية واعتدالاً. على سبيل المثال، قبول إقامة دولة فلسطينية وفق حدود 1967 وتعريف العدو في الوثيقة الجديدة بأنَّه "الصهاينة المحتلون" بدلاً من اليهود في الميثاق التأسيسي هي أمثلة جيدة على التغيير وتبني نهج أكثر اعتدالاً على الرغم من تصريح حماس بأنَّ الوثيقة الجديدة لا تحل محل الميثاق التأسيسي، بل مُكمّله له.

حماس في الإعلام الجديد

تستخدم حركة حماس لغة وخطاباً مختلفاً لكل جمهور خلال تعاملها مع أدوات الإعلام الجديد. على سبيل المثال -يشرح أبو سلمية أحد أعضاء وحدة الإعلام التابعة لحماس- بينما تنقل الحركة رسائل إلى الشعب الفلسطيني حول أهمية وثواب الجهاد والاستشهاد والمقاومة، فإنَّها تسعى إلى إيصال معلومات إلى العالم عن الاضطهاد التاريخي وضحايا الشعب الفلسطيني  والواقع القاسي الموجود في فلسطين وكشف القمع والجرائم وعمليات القتل التي ترتكبها إسرائيل المحتلة منذ عقود. تمتلك حماس قناعة ثابتة في هذا الصدد، بحيث تؤمن بضرورة مخاطبة كل جمهور بلغة وخطاب محددين ومتمايزين. يوضح هذا المثال استخدام حماس أدوات وسائل التواصل الاجتماعي بوعي وإجرائها دراسات جدية حولها.

عندما ننظر إلى التأثيرات التي خلقتها حماس وإسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول من خلال الأخذ بعين الاعتبار منشوراتهما على منصات التواصل الاجتماعي، يمكننا رؤية نجاح حماس وفشل إسرائيل، بل وعجزها. تحتجز إسرائيل الرهائن المفرج عنهم من قطاع غزة في مستشفيات مختلفة داخل البلاد ولا تسمح لهم إلا بلقاء أقاربهم في المستشفيات. لم يُسمح لأي رهينة إسرائيلي أُطلق سراحه مؤخراً من غزة بالتحدث إلى الصحافة ولا تنشر إسرائيل سوى لقطات للرهائن المفرج عنهم من غزة أثناء نقلهم إلى المستشفيات ولقاء عائلاتهم عبر قنواتها الرسمية. علاوة على ذلك، تمنع إسرائيل نشر أي مقطع فيديو أو تصريحات غير خاضعة لمراقبتها. لكن الإسرائيليين، بطبيعة الحال، لا يفعلون ذلك مع السجناء الفلسطينيين الذين يطلقون سراحهم. تتحدث علناً النساء والأطفال الفلسطينيون المفرج عنهم من جانب إسرائيل في إطار صفقة تبادل الأسرى عمّا يواجهونه في السجون الإسرائيلية من قمع وعنف لفظي وجسدي ونفسي وإذلال أمام العالم عبر وسائل الإعلام.

في المقابل، غادرت امرأتان مُسنّتان، يوخفيد ليفشيتز ونوريت اسحق اللتان أفرجت عنهما حماس قبل وقتٍ طويل من صفقة تبادل الأسرى لدواعً إنسانية وأسباب صحية، قطاع غزة بوجوه مبتسمة ومصافحة مقاتلي حماس وانتشرت هذه الصور على جميع منصات التواصل الاجتماعي. قالت يوخفيد ليفشيتز في مؤتمر صحفي بُثّ على الهواء مباشرةً بعد يوم من مغادرتها غزة: "لقد أخبرونا (كتائب القسام) أنَّهم يؤمنون بالقرآن ولن يصيبونا بأذى. لقد وفّروا لنا نفس الظروف التي يعيشونها في الأنفاق". أدت هذه التصريحات إلى زيادة التعاطف مع حماس في جميع أنحاء العالم وتفوقت حماس على إسرائيل في الدبلوماسية العامة للحرب.

ومع ذلك، يعود أحد أهم أسباب ارتفاع شعبية حماس على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مقاطع الفيديو التي تنشرها أثناء عملية تسليم الأسرى الإسرائيليين. أظهرت مقاطع الفيديو مقاتلي حماس وهم يأخذون الرهائن من أيديهم ويتوجّهون بهم نحو مركبات الصليب الأحمر الدولي ويتصافحون معهم في مشهد يبين أنَّ حركة حماس ليست المنظمة الإرهابية الوحشية التي تتحدث عنها إسرائيل. لكن الشيء الأهم يتمثَّل في الرسالة الضمنية الموجودة في مقاطع الفيديو، فكل الأسرى المطلق سراحهم من جانب حركة حماس تعلو وجوههم الابتسامة وعلامات الشكر والامتنان، وليس الخوف أو التوتر. أدَّى ذلك إلى وضع إسرائيل في موقف صعب للغاية مع تصويرها حماس دولياً على أنَّها جماعة وحشية. كان هناك تناقض خطير بين الخطاب الإسرائيلي ضد حماس وما ظهر في تلك الصور المنشورة. على الرغم من لجوء السلطات الإسرائيلية، في أعقاب مقاطع الفيديو هذه، إلى السردية القائلة بأنَّ الرهائن الإسرائيليين خضعوا للتدريب مراراً وتكراراً على يد حماس لفعل ذلك وأنَّهم تعرضوا جميعاً للتعذيب، أظهر الرأي العام العالمي كله تقريباً إجماعاً على أنَّ هذه السردية تنافي الحقيقة.

أدى نشر هذه اللقطات المصورة إلى حشد وسائل الإعلام الإسرائيلية أيضاً. علقت صحيفة " Israel Today" بعد نشر مقاطع الفيديو قائلة إنَّ "بث هذه المقاطع على شاشة التلفزيون الإسرائيلي يضر بالبلاد"، كاشفة عن خطورة الوضع. بالمثل، نشرت صحيفة " Haaretz" مقالاً أعربت فيه عن استيائها من بث هذه المشاهد.

حماس مقابل إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي

كما يعلم الجميع، تتمثل أهم ميزة لوسائل التواصل الاجتماعي في قدرة المستخدمين على أن يكونوا قُرّاء وناشرين على حدٍ سواء. هذا يعني أنَّ بيانات المستخدم غير المتلاعب بها على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس اتجاه الرأي العام إلى حدٍ كبير. 

بينما أكبر ورقة رابحة لحماس على وسائل التواصل الاجتماعي تتمثل في إظهار الصدق والتعاطف في مقاطع الفيديو، فإنَّ أكبر ورقة رابحة لإسرائيل هي الضغط على منصات التواصل الاجتماعي.  أفادت ليندا ياكارينو، الرئيسة التنفيذية لمنصة "X"، أنَّ المنصة أزالت مئات الحسابات المرتبطة بحماس منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول واتخذت إجراءات لإزالة عشرات آلاف من أجزاء المحتوى. من المعروف أيضاً أنَّ شركة "ميتا" تعرضت لضغوط لإغلاق العديد من الحسابات وحذف أو حظر العديد من مقاطع الفيديو. ومع ذلك، لم تكن كل هذه الإجراءات كافية للحد من نسب مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة بحركة حماس.

كشفت أبحاث أجريت بعد وقتٍ قصير من نهاية الشهر الأول من الحرب أنَّ الهاشتاغ المؤيد لفلسطين freepalestine# ظهر في أكثر من 11 مليون منشور على فيسبوك، أي أكثر بمقدار 39 مرة من عدد المنشورات المشاركة في الهاشتاغ المؤيد لإسرائيل standwithisrael#. جذب الهاشتاج المؤيد لفلسطين 6 ملايين مشاركة، أي أكثر بـ 26 مرة من المشاركات التي حصدها الهاشتاج المؤيد لإسرائيل على موقع إنستغرام. بينما تحمل هذه الأرقام دلالات بالغة الخطورة، ذهبت بيانات تطبيق "تيك توك" إلى أبعد من ذلك لدرجة أنَّ بعض المسؤولين الأمريكيين قالوا إنَّ الحكومة الصينية تلاعبت بخوارزمية تطبيق "تيك توك" للترويج لوجهات النظر المؤيدة للفلسطينيين، مشيرين إلى ضرورة حظر التطبيق على مستوى البلاد.

من المعروف أنَّ إسرائيل جرَّبت أساليب التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما بعد ظهور تلك البيانات الأولية وبعد رؤية آثارها لأنَّها تكشف خسارة إسرائيل بالفعل على منصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم تأييد الرأي العام لهذه الحرب. أظهرت دراسة أجريت قبل أيام أنَّ المحتوى المؤيد للفلسطينيين أكثر شعبية بين مستخدمي الجيل "زد" وأنَّ مقاطع الفيديو المُصحوبة بهاشتاغ "standwithpalestine" (ادعم فلسطين) على تيك توك جذبت 870 مليون مشاهدة في حين حصلت مقاطع الفيديو المتضمنة جملة "standwithisrael" (ادعم إسرائيل) على 240 مليون مشاهدة. لا تزال الفجوة كبيرة على الرغم من كل الضغط الممارس من جانب إسرائيل.

الحقيقة التي تكشفها مقاطع فيديو الأسرى الفلسطينيين

أحد الجوانب الأخرى التي أثارت اهتمام المجتمع الدولي في صفقة تبادل الأسرى هو نزول الإسرائيليين من مركبات حماس بوجوه مبتسمة مقابل حالة الأسرى الفلسطينيين المحتجزين لدى إسرائيل منذ سنوات. جذبت صور النساء والأطفال المفرج عنهم من سجون إسرائيل في إطار الصفقة، والتي أظهرت آثار التعذيب، انتباه وسائل الإعلام الغربية. 

صور الأطفال الذين تشوهت أجسادهم بسبب التعذيب وصور النساء المسجونات منذ سنوات دون إدانتهن بأي جريمة وما قالوه لوسائل الإعلام دفعت العالم الغربي إلى التشكيك في عدالة إسرائيل ونظامها القضائي. نشرت بعض منصات الإعلام الغربية الكبرى مقالات حول هذا الأمر. لاقت تصريحات السجناء الفلسطينيين عن تعرضهم للمضايقة والضرب والرش بالغاز والحرمان من الماء والمنع حتى من الذهاب إلى دورة المياه صدى واسع النطاق في المجتمعات صاحبة الضمير الحي في العالم الغربي. بينما انتقص كل هذا من رصيد تأييد إسرائيل من ناحية، لكنه أضاف إلى رصيد التعاطف مع حماس من ناحية أخرى. في الوقت نفسه، كشف ذلك أيضاً أمام العالم عن السبب الذي دفع حماس إلى شن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. بات الرأي العام العالمي يتبنى على نحو متزايد وجهة النظر القائلة بأن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يجب النظر إليه باعتباره رد فعل لما يعانيه الشعب الفلسطيني من قمع وظلم ممنهج.

أظهرت حماس دقة واستراتيجية حيال العديد من القضايا مع تحقيق نجاح كبير سواء في ساحة المعركة أو في مجال الدبلوماسية العامة. استطاعت حماس صياغة السرديات الصحيحة ونشرها بالطريقة الصحيحة عبر الوسائل الصحيحة. لذا، نجحت على نطاق واسع في لفت الانتباه إلى قضايا يعاني منها الفلسطينيون لم تستطع إثارة الاهتمام بها على مدار سنوات. أدَّى نجاح حركة حماس في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وقدرتها على خلق نموذج جذّاب ملهم مثل أبو عبيدة ومخاطبة العالم الإسلامي والعالم أجمع من خلاله، لاسيما إدارتها لعملية تبادل الأسرى على نحوٍ جيد للغاية إلى خلق رأي عام دولي يدعم القضية الفلسطينية بشكلٍ أو بآخر. سرعان ما انعكس تأثير هذا الرأي العام على وسائل الإعلام وتتمثل المرحلة التالية في انعكاس هذا التأثير على الحكومات وأن يتحوّل نجاح حماس على وسائل التواصل الاجتماعي إلى نجاح سياسي على أرض الواقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إشجان
كاتب وباحث تركي
نائب رئيس مركز العلاقات الدبلوماسية والدراسات السياسية التركي
تحميل المزيد