“إما نحن وإما هم”.. هكذا تشعل تل أبيب جبهتها الشرقية مع الأردن

عربي بوست
تم النشر: 2023/11/30 الساعة 13:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/11/30 الساعة 13:56 بتوقيت غرينتش
حكومة نتنياهو المتطرفة - تعبيرية / عربي بوست

من بين أنقاض كنيسةٍ وديرٍ يعود تاريخهما إلى القرن الرابع على جبل نيبو، الذي أمر الله موسى، وفقاً لسفر التثنية، أن يصعده ليرى أرض الموعد قبل وفاته؛ تنفتح فلسطين أمامكم على مرمى البصر. 

يظهر في المقدمة وادي الأردن، وعلى مسافة متوسطة تظهر أريحا، وفي الأفق تتلألأ أضواء القدس. 

إنه موقعٌ اختاره الزعماء المسيحيون كرمز للسلام. وفي عام 2000، قام البابا يوحنا بولس الثاني بغرس شجرة زيتون فيه بجوار الكنيسة البيزنطية. وزاره البابا بنديكتوس السادس عشر بعد بضع سنوات. 

أقرب معبر على الحدود الأردنية يقع بقرب الطرف الجنوبي لتل أبيب من غزة. ومن الجيد لقادة إسرائيل وشعبها أن يتذكروا هذه الحقيقة البسيطة؛ فهم لا ينبغي لهم أن يتطلعوا إلى مصر أو لبنان للحكم على تداعيات هذه الحرب، بل إلى الشرق نحو الأردن. 

لقد اهتزت المملكة من أعلى إلى أسفل بسبب محاولات إسرائيل المعلنة والفعلية لتفريغ غزة من شعبها. 

من الأعلى، اتهمت الملكة رانيا، زوجة الملك الفلسطينية، الزعماء الغربيين باتباع "معايير مزدوجة صارخة" لفشلهم في إدانة مقتل المدنيين تحت القصف الإسرائيلي. وقال رئيس الوزراء بشر الخصاونة إن تهجير الفلسطينيين خط أحمر بالنسبة للأردن، وانتهاك أساسي لمعاهدة السلام التي أبرمتها بلاده مع إسرائيل، بينما قال وزير الخارجية أيمن الصفدي إن ذلك سيكون بمثابة "إعلان حرب". 

الأردن
وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي – رويترز

ومن الأسفل، لا تزال المشاعر تتصاعد. وعندما دعا أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، الأردنيين إلى النهوض، كان الرد سريعاً للغاية. هتف زعيم عشائري في مدينة المزار: "إلى أبو عبيدة، الشخص الوحيد الذي ذكر فضل الأردن. ولأول مرة نسمع أن الأردن كابوس للصهاينة. فلسطين بالنسبة لنا -نحن الأردنيين- ليست حجارة وطيناً. فلسطين عند الأردنيين ليست تيناً وزيتوناً. فلسطين بالنسبة للأردني عقيدة ودين. من المزار الفخور تحية لأبي عبيدة. من الكرك الأبي تحية لغزة". 

معاهدة السلام قيد المراجعة 

لا ينبغي أن نتغافل عن ارتفاع الدعم بين الأردنيين لحركة حماس، التي تُصنَّف منظمةً إرهابية من قبل إسرائيل ودول أخرى، بما في ذلك المملكة المتحدة، ولكن ليس من قبل الأردن. 

الخصاونة على حق. إن أي تهجير قسري للفلسطينيين من أي جزء من فلسطين يمكن أن يكون سبباً للأردن لتمزيق معاهدة السلام مع إسرائيل، تلك المعاهدة التي صمدت لثلاثة عقود من هذا الصراع. 

كبداية، هذه الحقيقة مكتوبة في الوثيقة. وتنص المادة 2.6 من المعاهدة التي وقعها الملك حسين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، على أنه "في نطاق سيطرتهما، لا يجوز السماح بالتحركات القسرية للأشخاص بطريقة تضر بأمن أي من الطرفين". 

لذلك، فليس من قبيل الصدفة أن يقوم البرلمان الأردني بمراجعة المعاهدة، أو أن يرفض الأردن التوقيع على اتفاق بوساطة إماراتية يقوم الأردن بموجبه بتزويد إسرائيل بالكهرباء مقابل المياه.

مروان المعشر، نائب رئيس قسم الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، شاهدٌ على التقلبات العنيفة في علاقات الأردن مع إسرائيل. افتتح المعشر سفارة الأردن الأولى في إسرائيل. وكوزير للخارجية، لعب دوراً مركزياً في تطوير مبادرة السلام العربية لعام 2002، والتي أثبتت أنها الفرصة الحقيقية الأخيرة لحل الدولتين على أساس حدود إسرائيل عام 1967. إذا كان هناك من يؤمن بمبدأ الأرض مقابل السلام فهو هذا الشخص. 

واليوم، يتبنى المعشر لهجةً متشائمةً بشكل متزايد. وهو يشير بحق إلى أن القصف الإسرائيلي لغزة كان سبباً في إحياء المخاوف الأردنية القديمة من احتمال قيام إسرائيل بخلق أو استخدام ظروف الحرب لدفع عدد كبير من الفلسطينيين من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية المحتلة إلى الأردن. 

وليست رغبة إسرائيل في القيام بذلك سراً على أحد. من الناحية الأيديولوجية، كان حزب الليكود، منذ مناحيم بيغن فصاعداً، يعتقد دائماً أن الأردن وطن بديل للفلسطينيين. ويقول وزيران في الحكومة -على يمين الليكود- صراحةً إنه ليس للفلسطينيين الحق في العيش في الضفة الغربية، وأحدهما، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو أول وزير في الحكومة يشرف على الحياة المدنية في الأراضي المحتلة. 

كتب المعشر في تعليقٍ حديث لمؤسسة كارنيغي: "من وجهة نظر الأردن، أصبح التهجير الجماعي احتمالاً حقيقياً، وليس مجرد حجة نظرية. إذا كانت إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية أو أغلبية فلسطينية، فإن البديل الوحيد هو محاولة التأثير على التهجير الجماعي لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين… وحتى الآن، تنطبق ظروف الحرب على غزة فقط. لكن الأردن يشعر بالقلق من أن غزة قد تشكّل سابقة لتصعيد مماثل في الضفة الغربية". 

وأضاف: "تقوم مجموعات المستوطنين بالفعل بمداهمة القرى الفلسطينية يومياً بدعم من الجيش الإسرائيلي، ما يؤدي إلى طرد الفلسطينيين منها. وهذا يخلق الانطباع بأن المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية يرون في الحرب الحالية في غزة فرصة للتطهير العرقي في الضفة الغربية". 

مخاوف من حرب مقدسة

لم يكرر الملك حسين قط ذلك الدفء، الذي جمعه في علاقته مع رابين، مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الرجل الذي أمر بمحاولة اغتيال زعيم حماس خالد مشعل، والذي أجبره الملك حسين على تقديم الترياق للسم الذي حقنه عملاء الموساد في هدفهم. 

لم يكن أداء الملك عبد الله أفضل كثيراً رغم تعلُّمه في ساندهيرست وميوله الأطلسية. ومع لا مبالاة المنتصر، استخدمت إسرائيل الأردن دائماً كمنطقة عازلة في أحسن الأحوال. ولم يغب عن الهاشميين أن أحد المحركات الرئيسية للدفع نحو التطبيع مع المملكة السعودية كان خطة إسرائيل لتحل محل دور الأردن التاريخي كوصي للأماكن المقدسة في القدس. وتلك المخاوف من أن تؤدي التغييرات التي تجريها إسرائيل على الوضع الراهن في المسجد الأقصى إلى إشعال حرب مقدسة مع العالم الإسلامي، أعرب عنها مقربون من العائلة المالكة الأردنية. 

الملك الأردني عبدالله الثاني، أكتوبر 2023/ Getty
الملك الأردني عبدالله الثاني، أكتوبر 2023/ Getty

وفي أسوأ الأحوال، نظرت إسرائيل إلى الأردن باعتباره مصدر إزعاج يجب تجاوزه، إلى جانب الفلسطينيين، في الصفقات التجارية المتألقة مع دول الخليج الغنية بالنفط والغاز. كل هذا كان يتراكم بشكل ثابت في أذهان الأردنيين، قبل وقت طويل من تلويح نتنياهو بخريطة إسرائيل، التي مُحيت منها فلسطين، في الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة. 

ولكنْ هناك سبب أعمق للانزعاج الأردني، ولليقين من عدم السماح لإسرائيل بالنجاح في غزة.

منذ السبعينيات فصاعداً، كان الفلسطينيون، الذين يشكلون حوالي 60% من السكان في الأردن ويحملون الجنسية الأردنية، باستثناء اللاجئين من غزة، يعتبرون أنفسهم متفرجين في كل مرة تندلع فيها الحرب. بعد انتهاء الحرب الأهلية بطرد منظمة التحرير الفلسطينية، فقد الفلسطينيون في الأردن كل إحساس بأنهم مشاركون في الصراع. ولم يسمح الملك لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية بأن يكون لها أي وجود جماعي في الأردن. 

وعندما كسبت حماس الهيمنة في الشتات الفلسطيني، طُرِدَت هي الأخرى. وكانت العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وحماس، كما وصفها أحد الأعضاء البارزين، علاقة "معقدة ومثيرة للجدل" بعد أن نقلت حماس قيادتها من الأردن إلى سوريا في عام 1999. 

ولم تهدأ الخلافات إلا عندما اتفق الطرفان على التعايش، لكنّ الحركة الإسلامية ظلت ممزقة بالانقسامات، خاصة حول ما إذا كان ينبغي منح الأولوية للقضية الفلسطينية على الأجندة الداخلية للأردن. ليس لدى حماس عضوية أو تنظيم جذري في الأردن، على عكس لبنان أو سوريا. والإسلاميون في الأردن جزء من جماعة الإخوان المسلمين. 

رفع المخاطر 

الكثير من هذا في طيِّ التاريخ. وتسير المحادثات بين الفلسطينيين في عمان على خطوط مختلفة تماماً. 

قال لي أحد الفلسطينيين من عمان: "نحن في الأردن -فلسطينيين وأردنيين- لدينا روابط أوثق مع فلسطين من زعيم حزب الله حسن نصر الله. نحن سُنَّة، تربطنا القبائل نفسها. كيف يمكن أن نلوم حزب الله لأنه لا يفعل المزيد ونحن نشارك فقط في المظاهرات؟ وهذا لا يمكن أن يستمر". 

الحقيقة الواضحة هي أن إيقاظ الهوية الفلسطينية، الذي أثار الاضطرابات المدنية في المدن المختلطة في إسرائيل عام 2021 بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، يحدث الآن في الأردن. 

وهذا له آثار ضخمة. وبالنسبة للجماعات الفلسطينية المسلحة، فإن ذلك يفتح مخزوناً هائلاً من المجندين المحتملين والأموال والأسلحة. 

يتجاوز الدعم المُقدم لحماس الانقسامات العرقية في الأردن. والأردنيون الشرقيون ملتزمون بالقدر نفسه بالرد على إسرائيل. قال أحد زعماء عشيرة مهمة، طراد الفايز، وهو من فرع الفايز من قبيلة بني صخر، لصحفي محلي: "كلنا ندعم حماس والمقاومة. الأردنيون والفلسطينيون متحدون ضد إسرائيل". 

لكن حماس لا تحتاج إلى القيام بحملة دعاية في الأردن. ليس هناك حافز أكبر للعمل من تصرفات المستوطنين والجيش الإسرائيلي الذي يقوده المستوطنون في الضفة الغربية المحتلة. 

قبل تسعة أيام ظهرت صفحة على منصة فيسبوك تحمل الرسالة التالية: "إلى أهل جنين: 9 أيام. ارحلوا الآن… هاجروا إلى الأردن". وأُرفِقَت الرسالة بمقطع فيديو يُظهِر الطريق الذي يجب أن يسلكه فلسطينيو جنين إلى إربد في شمال الأردن. أغلقت منصة فيسبوك الصفحة بعد وابل من الشكاوى.

وبعد تسعة أيام بالضبط، أعلن الجيش الإسرائيلي أن جنين منطقة عسكرية مغلقة، في عملية لا تزال مستمرة.

وكما أشار السيناتور الأمريكي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات، فإن معظم جنود الاحتياط الذين يستدعيهم الجيش الإسرائيلي يأتون من عائلات المستوطنين. إن التطلع إلى الجيش للحد من الهجمات على البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة هو محض حماقة، إذ إن كليهما من الصنف نفسه. كل ما يفعلانه هو تبديل الزي الرسمي. 

يفعل الأردن ما بوسعه. فقد أغلق الحدود وعززها لمنع اندفاع الفلسطينيين على يد المستوطنين، وأنشأ مستشفى ميدانياً في نابلس. 

ومع مرور كل يوم من أيام حرب غزة، تتزايد المخاطر على المنطقة. إن الاعتقاد السائد في واشنطن بإمكانية تهدئة الوضع الفلسطيني من خلال استئناف العملية نفسها، التي كرس المعشر، على سبيل المثال، معظم حياته المهنية لها، هو خطأ جوهري. 

فالمستوطنون الإسرائيليون يتنقلون، واستيلاؤهم على الأرض التي يريدونها حقاً من شأنه أن يقضي على الدولة الفلسطينية إلى الأبد. المزاج السائد في إسرائيل قاسٍ، وإسرائيل تريد القتال حتى النهاية. ويبدو أنهم يقولون جميعاً لأنفسهم: "إما نحن وإما هم". ووقف إطلاق النار في غزة لن يوقف ذلك. 

إنهم لا يعلمون أن إسرائيل، بتدميرها غزة، تفتح جبهة ضخمة على جناحها الشرقي، وهي الجبهة التي ظلت هادئة طوال الأعوام الخمسين الماضية. 

لن تكون هذه الجبهة هادئةً بعد الآن. 

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني
ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً
تحميل المزيد