نقص حاد في الغذاء والدواء، وشُحٌّ حتى في المياه الصالحة للشرب، يكابدهما قطاع غزة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي عليه. عمليات جراحية؛ منها بتر أعضاء، تتم دون تخدير، وهذا أمرٌ جلل يهز القلب كمداً ويعصره ألماً، وما خفي من آلام وأنين أعظم وأنكى.
"شيطنة المقاومة" استراتيجية سارت عليها قوى العالم الاستعماري لشرعنة دعمها المطلق لكيان محتل. الاستراتيجية المذكورة أصّلتها مدرسة كوبنهاغن الفاعلة في العلاقات الدولية. وفقاً لأدبيات هذه المدرسة، الشيطنة اسمها العلمي الأمننة التي تُنتهج لتحويل منطقة جغرافية معينة لهدف عسكري؛ هنا يُصبح كل مدني وعسكري هدفاً أمنياً يُقتل ويُدمر تحت ذريعة أنه "خطر أمني".
الشيطنة تمت من قبل واشنطن وتل أبيب بوصف أهل غزة "حيوانات بشرية" يشكّلون تهديداً وجودياً للأمن العالمي، وكان الهدف من ذلك إسقاط الصفة الإنسانية عن أهل غزة وتحويلهم جميعاً لأهداف عسكرية، وقد تم اتخاذ إجراءات إعلامية بالغت في تشويه ما حدث في السابع من أكتوبر رغم أنه لم يثبت حتى الآن صحة ما تم ادعاؤه؛ ولن يثبت. والهدف من هذه الشيطنة إقناع العالم بضرورة دعم توجهات الآلة العسكرية بهدف الوصول إلى "شرعية" التحركات العسكرية.
الشيطنة تخالف القانون الدولي، وهو مادة ساخرة تُستخدم من قبل القوى السياسية المسيطرة لتسويغ ما تقوم به. في القانون الدولي هناك قواعد آمرة "Jus Cogens" تفرض التزامات غير مسموح بتجاوزها في الحرب، لكن نعود للمربع الأول، دولة الاحتلال فوق القانون الدولي، والأصل أن هذه دولة احتلال، فلا حق أصلاً لديها في الوجود في غزة أو حتى غلاف غزة إن قبلنا جداً بقرار 181 الصادر عن مجلس الأمن لعام 1947، والذي يمنح بذاته حق المقاومة والشرعية للتحرك الذي حدث في السابع من أكتوبر.
بعد مُضي ما يقارب الشهرين على اشتعال جذوة العدوان الغاشم على قطاع غزة، تم التوصل إلى هدنة بمنطق الخسائر لدى الطرفين، لا بد أن تحضرنا إحصائية حرب عام 1973.
على هامش هذه الحرب خسرت مصر وسوريا والأردن والقوى المشاركة الأخرى ما يقارب 15 ألف شهيد، ولكن بقيت حرب 1973 تُوصف بالانتصار لتمكّنها من تغيير المعادلة القائمة بعد وقوعها، فمعادلة عدد الشهداء من طرف الشعب المقاوم مقابل الاحتلال تُبقي دوماً الخسائر أكبر في صف المقاومة، إذ إن الاحتلال عادةً ما تكون لديه قدرات عسكرية أكبر، ولا يُنسى هنا المثال الجزائري، حيث قدمت الجزائر أكثر من مليون شهيد وصولاً للاستقلال.
الهدنة الإنسانية من اسمها تعقد للملمة الجروح والتقاط الأنفاس. الصفقة التي تمت كشفت للعالم وجود رهائن فلسطينيين لدى إسرائيل، وهذا ساهم في اتساع نطاق الوعي العام ضد دولة الاحتلال.
يُضاف لذلك كشف الهدنة الإنسانية ضعف النظام الأمني لدولة الاحتلال التي لم تستطع الوصول إلى أي من الأسرى الموجودين في أيدي المقاومة. وهنا أظهرت المقاومة تماسكاً في صفوفها رغم نيران العدوان المستعرة.
الهدنة الإنسانية بمحاورها أكّدت استقلالية قرار المقاومة، فهو لا يتبع بالمطلق لإيران كما كان يروج، بل ينبع من لدن المقاومة. وهذا التأكيد مهم لكشف النقاب عن زيف وحدة الساحات التي كانت تظهر وكأنها تعمل في غرفة مشتركة، ليظهر أن الهدف الإيراني يكمن فقط في إيجاد تهديد للمصالح الاستراتيجية لكلٍ من الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي، فهناك تساكن تسعى طهران وواشنطن لإبقائه متوازناً في العراق وسوريا.
الخلاصة تقبع في أن معادلة الرابح والخاسر تُطبق على دولتين مستقلتين لديهما تكافؤ في القوة وليس بين مقاومة ودولة احتلال، وهذا ما يمكن للمقاومة تحقيقه، ومن لديه قدرات أكبر فليقارع الاحتلال ويفرض معادلته دبلوماسياً أو عسكرياً كي يُقتفى أثره في ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.