شاهَدَ العالم أجمع تلك الصور الإنسانية الرحيمة التي أظهرها أبطال المقاومة في فلسطين وهم يُسلّمون الأسرى الإسرائيليين في إطار الهدنة الإنسانية، وصفقة تبادل الأسرى بين الجانبين مع الاحتلال الإسرائيلي، ففضلاً عن كون الأسرى لديهم خرجوا وهم في أفضل حال على المستوى النفسي والجسدي والعقلي، إلا أن نظرات الإعجاب والتقدير في عيون الأسرى الإسرائيليين نحو أبطال المقاومة، والتحايا التي أرسلوها لهم خلال نقلهم بسيارات الصليب الأحمر الدولي، والتي رصدتها كاميرات الصحافة العالمية، أثارت الدهشة والاستغراب الممزوجين بمشاعر الإعجاب والاحترام لدى الإسرائيليين والغربيين، ممن اعتادوا على سماع الرواية النمطية في تشويه صورة المسلمين، ووصف المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل بالإرهاب والعنف واللاإنسانية، من خلال القنوات الإعلامية الرسمية، ووسائل الإعلام الغربية المتعاطفة أو القريبة من إسرائيل، التي شنت حملات دعائية عالمية، واصفةً المقاومة الفلسطينية بوحوش عديمي الرحمة، ومتعطشين للقتل، لا يراعون القواعد الأخلاقية ولا الإنسانية، ولا المعايير الدولية في سلم ولا في حرب.
شهادات إسرائيلية بمعاملة المقاومة الفلسطينية الإنسانية للأسرى
خلال تسليم الأسرى الإسرائيليين للصليب الأحمر الدولي ظهر عناصر من المقاومة الفلسطينية، يربتون على الأطفال ويترفّقون بالمسنين، في فصل واضح بين صورة المقاوم الفلسطيني ذي البأس الشديد في الميدان، وصورته كإنسان يعطف على الضعيف والصغير ويحترم الشرائع والمواثيق.
وأمام الكاميرات ظهر الأسرى الإسرائيليون المفرج عنهم بصحة جيدة، ويرتدون ملابس مرتبة، وظهرت فتيات وسيدات يبتسمن لرجال المقاومة ويلوحن لهم بالود والتودد. وكانت النتائج الأولى لتلك المعاملة الإنسانية بتصريحات من مستشفيات "فوولفسون" و"شنايدر" في تل أبيب، أنهما استقبلا مجموعة من الأسرى الذين أفرج عنهم من غزة، وجميعهم بصحة جيدة.
هكذا سقطت ورقة التوت كما يُقال، ولم تعد الوقائع خافيةً على أحد، بل كانت تلك المشاهد واضحة للعيان، وحتى وسائل الإعلام الإسرائيلية "هآرتس والقناة 13 وغيرهما.." نقلت فيديوهات وصور الأسرى مع أبطال المقاومة الفلسطينية، وكيف أحسنوا معاملتهم، وبأنهم لم يتعرضوا لأي نوع من الإهانة أو العُنف والتعذيب، فلم تستطع وسائل الإعلام تلك إلا أن تُقر بالحقيقة، بعد أن شهدت عليه المواقف المصورة، وبعد أن تواترت شهادات الأسرى الأمريكان والإسرائيليين المفرج عنهم خلال هذه الحرب.
وقال المراسل العسكري في القناة الـ13 الإسرائيلية ألون بن دافيد، خلال حوار تلفزيوني، إنه تواصل مع بعض الأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم خلال الهدنة، وقالوا إن مقاتلي المقاومة الفلسطينية جمعوا منتسبي كل كيبوتس (مستوطنة إسرائيلية) مع بعض، ما أعطاهم إحساساً أكبر بالراحة. وأضاف "لم يتعرضوا للعنف ولا للإهانة، وحاول عناصر المقاومة الإسلامية تزويدهم بالغذاء وبالمسكنات وأدويتهم الاعتيادية قدر المستطاع، في ظل ظروف أمنية خطيرة وقاسية تحت الأرض وداخل الأنفاق. وتابع قوله: "كانوا يجلسون، ويتحدثون مع بعضهم البعض، ويقومون بأنشطتهم بشكل اعتيادي، ويستخدمون اليوتيوب، لقد أعطاهم ذلك دفعة للصمود".
وفي حديث نقلته جيروزاليم بوست، روت الإسرائيلية أدريانا أن جدتها يافا عادت من غزة "جميلة ومشرقة"، وفي وضعية صحية جيدة.
كما نشرت ابنة إحدى الأسيرات الإسرائيليات لدى المقاومة، وهي أسيرة مريضة وطاعنة في السن، منشوراً عبر حسابها في فيسبوك قالت فيه: "… أمي عمرها 85 سنة، وعادت من غزة بصحة أفضل مما كانت عليه، رغم أنها لم تأخذ علاجها فقد قُدم إليها العلاج في غزة". وأضافت: "المستشفيات الإسرائيلية لم تكن تعالجها جيّداً، وفي غزّة عالجوها العلاج الصحيح الذي يخفف عنها الألم ويحسن من صحتها!".
ولقد كانت تلك المشاهد من جولات النصر الإعلامي الكبير لحرب المقاومة الفلسطينية مع العدو الإسرائيلي، حيث دحضت ادعاءات الصهاينة وحُلفائهم، وذهبت حملات الشيطنة والأكاذيب الخادعة التي روّجوها لسنوات أدراج الرياح، فكانت هباءً منثوراً، وهو عكس الممارسات العنصرية الصهيونية، والاضطهاد والتعذيب، والركل، والعزل الانفرادي، والإذلال، والحرمان من النوم والأكل والدواء والنظافة، والتي تمارسها سلطات الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين، وهو ما شهد به عدد من الأسرى الذين خرجوا في صفقات التبادل الأخيرة.
المنهج النَّبوي الكريم بمعاملة الأسرى
كانت معاملة النبي ﷺ للأسرى تحفُّها الرَّحمة، والعدل، والنظرة الدَّعوية؛ فقبل ببعضهم الفداء، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم.
وحين رجع النبي ﷺ إلى المدينة المنورة، إثر انتصاره في معركة بدر، فَرَّق الأسرى بين أصحابه وقال لهم: "استوصوا بهم خيراً"، وبهذه التَّوصية النَّبوية الكريمة ظهر تحقيق قوله الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمَاً وَأَسِيراً ﴾ [الإنسان: 8].
فهذا أبو عزيز بن عُمَيْر، أخو مُصعب بن عمير، يحدِّثنا عمَّا رأى، قال: كنتُ في الأسرى يوم بدرٍ، فقال رسول الله ﷺ: "استوصوا بالأُسارى خيراً"، وكنتُ في نفرٍ من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم، وعشاءهم، أكلوا التَّمر، وأطعموني البُرّ؛ لوصيَّة رسول الله ﷺ.
وهذا أبو العاص بن الرَّبيع يحدِّثنا، قال: كنت في رَهْطٍ من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنَّا إذا تعشَّينا، أو تغدَّينا آثروني بالخُبْزِ، وأكلوا التَّمْرَ، والخبزُ معهم قليلٌ، والتَّمْرُ زادُهم، حتَّى إنَّ الرَّجل لتقع في يده كِسْرَةٌ فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثلَ ذلك، ويزيد: "وكانوا يحملوننا، ويمشون".
كان هذا الخُلُق الرَّحيم الَّذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين، وذكَّر به النَّبيُّ ﷺ أصحابَه، فاتَّخذوه خُلقاً، وكان لهم طبيعةً، قد أثر في إسراع مجموعة مِن أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عُقَيْبَ بدرٍ، بُعيْد وصول الأسرى إلى المدينة، وتنفيذ وصيَّة رسول الله ﷺ، وأسلم معه السَّائب بن عبيد بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم، وطهَّرت نفوسَهم، وعاد الأسرى إلى بلادِهم وأهليهم، يتحدَّثون عن محمَّدٍ ﷺ، ومكارم أخلاقه، وعن محبَّته، وسماحته، وعن دعوته، وما فيها من البِرِّ والتَّقوى، والإصلاح والخير.
ومن مشاهد الهدي النبوي الكريم في التعامل مع الأسرى والإحسان إليهم ما حدث حين أسر المسلمون ثُمامةَ بن أَثال الحنفيَّ سيِّد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النَّبيُّ ﷺ فقال: "ماذا عندك يا ثُمامة؟" فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دمٍ، وإن تُنعم تُنعم على شاكرٍ، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه حتَّى كان الغد فقال: "ما عندك يا ثُمامة؟" فقال: عندي ما قلتُ لك: إنْ تُنعم تنعم على شاكرٍ.
فتركه حتَّى كان بعد الغد فقال: "ما عندك يا ثُمامة؟" فقال: عندي ما قلتُ لك. فقال: "أطلِقوا ثُمامة"، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثمَّ دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسولُ الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان دينٌ أبغضَ إليَّ من دينك فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إليَّ، والله ما كان بلـدٌ أبغضَ إليَّ من بلـدك فأصبح بلدُك أحبَّ البـلاد إلـيَّ، وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أريد العُمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسولُ الله ﷺ وأمره أن يعتمر. فلـمَّا قدم مكَّة قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا والله ولكنِّي أسلمتُ مع محمَّدٍ رسول الله ﷺ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّةُ حنطةٍ حتَّى يأذن فيها النَّبيُّ ﷺ.
وفي هذه القصة لفتة إسلامية رائعة، وصورةٌ نبوية إنسانية عظيمة، حول الأثر الجميل الذي تتركه المعاملة الطيبة في قلوب وعقول المغلوبين والمأسورين، فربما تقودهم للهداية، وتجعلهم هداةً مهتدين. ولم يختلف ذلك الأثر الحسن والجميل الذي تركه النبي ﷺ في قلب ثمامة عن الأثر الجميل والانطباع الحسن الذي تركه أبطال فلسطين في نفوس أسراهم الإسرائيليين، ونفوس الكثير من أبناء الإنسانية.
بل إن أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالتعامل مع الأسرى شملت إجازة النفقة عليهم وكسوتهم، حيث روى البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: "لما كان يوم بدر أتي بأسارى بدر، وأُتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي ﷺ له قميصاً فوجد قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي ﷺ إياه"، وهذا في شأن الكسوة.
فلكُم أن تتخيلوا أعظم الخلق وسيد الثقلين ﷺ يرجع عدة مرات تلبيةً لنداء الأسير بين يديه بدون أن يتأفف أو يتذمر، بل يجيبه بالحِلم المعهود عنه، ويسأل عن حاجته ويلبيها.
في الختام نقول:
إنَّ المعاملة الكريمة للأسرى في العهد النبوي، وفي العهود الإسلامية حتى لحظة مبادلة الأسرى في فلسطين، شاهدٌ على سُموِّ الإسلام الأخلاقيِّ والقيمي والروحي، حيث نال أعداءُ الإسلام من معاملة النبي الأعظم ﷺ والصَّحابة الكرام أعلى درجات المعاملة الطيبة، والخُلق الحسن، خُلُق الإيثار، وحفظ الكرامة، والصبر على الدعوة، والأمر بالمعروف، وعدم التعدي على الحُرمات، وإن ما شاهدناه من معاملة المقاومة الفلسطينية للأسرى الإسرائيليين والأمريكان، وغيرهم من أعدائهم، في شهادات الأسرى، ووسائل إعلام العدو، ما هو إلا انعكاس حقيقي لقيم وتعاليم الإسلام السمحة، واقتداء أولئك الأبطال بالمنهج النبوي، بل هم امتداد طبيعي لقادة الأمة في اتباعهم للوصية القرآنية الخالدة في التعامل مع الأسرى، ويمثلون نموذجاً رائعاً في التأسي بالهدي النبوي.
إن هذه المواقف الإيمانية والإنسانية أظهرت المقاومة الفلسطينية بأنهم رجال يُدافعون عن أرضهم ومقدساتهم وأعراضهم ضد العدو الغاشم، والتصدي للهجمات الوحشية التي شنّها الصهاينة وأتباعهم وحلفاؤهم من أعوان الباطل وجنود إبليس، لتقويض الكفاح الفلسطيني، وكسر شوكة المقاومة. والرد جاء من المقاومة بالتحلي بتلك الأخلاق الراقية، وبالصمود الأسطوري، وهم يوجهون رسالةً مختصرة للعالم: نحن صامدون في أرضنا، ومتمسكون بإيماننا وعقيدتنا، ومدافعون عن أرضنا ومقدساتنا، وثابتون وماضون في مقاومتنا حتى تحقيق النصر وتحرير المقدسات والأرض واسترداد الحقوق المسلوبة من المحتلين بإذن الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.