"تمديد الهدنة وتأجيل الموت".. عبارة ارتبطت ببعضها، عندما يشعر الشعب الغزاوي أن مصيره ليس في يده حتى لو كان في داره ووطنه، وأنه فائض عن الحاجة، وأن مصيرة أصبح في يد نظام جديد ووكلاء وأمراء حرب جدد يستطيعون تأجيل قرار الموت، وما زال "نتنياهو" يردد جملة التخلص من شعب غزة في كل زمان ومكان.
إنه الصراع المهلك، ويحتاج إلى معجزة للنجاة منه، لأنه سري ومموه ومغطى ومقنّع ويأتي بحيل التفافية من عقلية صهيونية تقود النظام العالمي الجديد.
خلال مدة الهدنة ومتابعتي للصحف الأمريكية والغربية، بدأت أفكار حل الدولتين تطرح من جديد، وهذه الأفكار لا تمثل إلا مزيداً من التوتر والإجهاد العقلي وعدم الراحة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 75 عاماً، فبعد كل نكبة تطرح فكرة حل الدولتين! في بقعة جغرافية تحمل اثنين أو أكثر من المعتقدات أو الأفكار أو القيم المتناقضة في نفس الوقت، يقوم كيان غريب بسلوك يتعارض مع معتقد راسخ على أرض الأجداد الكنعانيين لينازع عليها وكأنها ميراث شرعي.
عبارات ومصطلحات تتداول عبر عقود، ليست عابرة أن تفقد كل اهتمام ورغبة، وتمشي على حافة الهاوية بين قناعات متضاربة تمزق وتشرد شعباً بصمت من القريب والبعيد، تموت فيه الحياة ويصبح حطباً يمشي للحفاظ على المظاهر.
يلتهم كثيرون أنفسهم كل يوم دون معرفة كمية المشاعر والأحاسيس التي تسحق وتتعفن وتختفي، وكمية الحياة التي تنطفئ بصمت. داخل الشعب الفلسطيني بين (شعب الله المختار وشعب الله المحتار) الفرق نقطة بين شعب مغتصب وشعب يحاول القريب والبعيد طمس الهوية عنه.
ومن أول السطر ماذا بعد انتهاء الهدنة؟!
شعب حي يعيش انقراضه البطيء، مع فقدان أصل الموضوع، وهو خارجي، يكون الارتداد للذات، الاجترار والحداد والسوداوية، نوع من التهام الذات كمطحنة فارغة تلتهم الفراغ، يبدو كما لو أنك انتهيت تواً من قراءة رواية الكاتب والفيلسوف سيجموند فرويد عن "الحداد والسوداوية".
هل كتب التاريخ من قبل أن شعباً عاش في حداد وسوداوية، وحصار، وتهجير وتشرد، وقتل داخل حدوده، واستُخدمت القوة المفرطة ضد شعب أعزل، والملاحقة الاستخباراتية في المنفى، وقتل على أرصفة قارعة الطرق في أوروبا ودول أجنبية وعربية، وتصفية وقتل ريشة فنان مثل ناجي العلي؟! أجبني أيها العربي المنسي تحت ركام الأنقاض، ما الذي يمكن أن أفعله لك لكي تخرج من هذه النكبات؟! لا شيء؛ فقد جفت الدموع وجف حبر القلم، وطويت الصحف وأغلقت الأبواب، نقولها بصوت منكسر لأن أصواتنا بلا صوت..
وماذا بعد الهدنة؟
إن المثقف العربي يعيش الآن شعور الاغتراب في منعطف اللحظة الراهنة حتى لو كان في وطنه، إن الاغتراب النفسي والمعنوي أقسى من الغربة المكانية، وكانت مفارقة غريبة أن أعيش مع شباب من فلسطين من الذين استُبعدوا من مخيمات الفلسطينيين في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، في مدينة برلين الألمانية، وصفقة العار بخروج المقاومة والفصائل الفلسطينية من بيروت، وتهجيرهم، نتقابل معاً في منفى في وضعيتين متعاكستين، اختيارية وإجبارية!
إن المثقف والفنان والكاتب يدخل في منفى من لحظة التصادم مع الذات والمجتمع والوضع الراهن، ومع دخولنا في مرحلة من العمر من نخر المرض في أجسادنا، المفارقة هي أن المثقف في منفى نفسي وفقدان للذات واغتراب! أن أراقب قرار تأجيل القتل والموت لبعد الهدنة، وكلنا من المحيط نسبح بقرار وقف القتل من التتار الجدد، ووجدت نفسي حائراً بين كل شيء انتهى بقرار القتل بعد الهدنة.
من دون تفاصيل محزنة، وهذه الطريقة السائدة في الأخبار العربية، تجعلك تعيش الانتحار الفكري، وتكفر بكل ما هو عربي.
ومع دخول فصل الشتاء؛ ما هي الصورة في غزة؟ بالطبع المطر والحداد ومصابيح الشارع التي قصفت من هجوم التتار. والسكون الليلي المخيم بحظر، والبرد والصقيع، ومنازل مهدمة وأنقاض، ولوحة رسمتها طفلة خرجت في الظلام الدامس تبحث في الأنقاض عن دفاترها وعن خريطة كتب عليها هنا غزة، كيف تستطيع أن تتخيل هذه اللوحات على الحائط وأغنية يا قدس لفيروز.
كيف تضع كل هذه التفاصيل المبعثرة في عبارات وروابط ما بعد الهدنة؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.