تحتل القضية الفلسطينية مكانةً محوريةً في تطور المنظومة الدولية وآليات علمها، فأول "وسيط" دولي تابع للأمم المتحدة، الكونت فولك برنادوت، أرسلته الأمم المتحدة لفلسطين، حيث اغتيل على يد العصابات الصهيونية في سبتمبر 1948، وأول بعثة "سلام" أممية (هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة) تم تأسيسها عبر الأمم المتحدة، تم إرسالها لفلسطين وفق قرار مجلس الأمن 50 لعام 1948 (والتي ما زالت موجودة إلى الآن).
كما أن أول بعثة أممية "لحفـظ السلام" تم تأسيسها عام 1956 (قوة الطوارئ الأولى التابعة للأمم المتحدة) تم إنشاؤها بعد العدوان الثلاثي على مصر وفي صلة مباشرة بالقضية الفلسطينية.
خلال العقود الثمانية الماضية بقي مصير القضية الفلسطينية مرتبطاً بالمنظومة الدولية التي تمثل انعكاساً لموازين القوى، وفي الوقت ذاته تجسيداً لتناقضاتها. طيلة العقود الماضية لم تنجح المنظومة الدولية وفي مركزها الأمم المتحدة في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ولم يكن هذا مهمتها أصلاً. لكنها استطاعت "إدارة الصراع" من خلال مؤسساتها الإنسانية وبرامج التنمية، وعلى رأسها وكالة الأونروا. بالتوازي مع "عمليات سلام" مستمرة لتدوير الزوايا وقولبة البرامج السياسية بما يوافق الإرادة الدولية.
إدارة الصراع وعمليات السلام كانت مهمة لإعطاء الشرعية للمنظومة الدولية، خاصةً في ظل التعامل مع أهم قضايا النزاع الدولية وأطولها، وما تعنيه القضية الفلسطينية من مسألة تحرر من الاستعمار ذات صدى عميق في التحرر السياسي لدول العالم الثالث، أو ما يُعرف "بالجنوب العالمي Global South". هذه الشرعية بدأت بالتآكل أصلاً في السنوات الماضية، بعد أن اعتراها صدأ السنين، وفي ظل تغول رأس الهرم الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة على المنظومة الدولية، أو حتى التهديد بالانسحاب منها في عهد ترامب، وترافق هذا مع تساوق أمريكي-أوروبي مع مشروع اليمين الإسرائيلي في كتم القضية الفلسطينية وإنهاء زومبي العملية السياسية.
لكن حرب غزة ستضاعف من عملية التآكل الجارية لشرعية المنظومة الدولية، كما ستترك ندبة عميقة في جبين هذه المنظومة المتآكلة أصلاً.
فلطالما تغنت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بدعمهم للنظام الدولي القائم على المبادئ والأعراف. ولطالما اتهمت الدول الغربية الصين وروسيا وبقية دول العالم بعدم احترام هذه المبادئ، بل والسعي لتقويض المنظومة الدولية وانتهاك أعرافها، فيما يتصدون هم للدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية، وذلك في إطار تعزيز شرعيتهم الدولية. الحرب الأخيرة على غزة لم تمثل، في أحد تجلياتها، زيف الادعاءات الغربية، وكشفت عدم مصداقية مساعيهم فحسب، بل إن المواقف الأمريكية والأوروبية تُسهم في تقويض هذه المنظومة الدولية التي ما زالت تقودها ذات الدول الغربية.
لقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية التي تهيمن على المنظومة الدولية الحالية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، على تقويض هذه المنظومة بدل العمل على تثبيت قواعدها على أسس متينة من الأعراف والقوانين الدولية. ولعل الحدث الأبرز الذي مثل ضربة للمنظومة الدولية كان احتلال العراق في عام 2003، والذي جاء بتحرك أمريكي-بريطاني تزعّمه كل من الرئيس بوش الابن ورئيس الوزراء توني بلير، رغم معارضة معظم دول العالم وعلى رأسها الصين وروسيا وفرنسا، صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، ورغم عدم استصدار قرار دولي من مجلس الأمن في العملية العسكرية الأمريكية في العراق كان التجاوز الأمريكي لمجلس الأمن، الذي يمثل حجر الأساس في المنظومة الدولية وسلطتها العليا المنوط بها تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ضربة عميقة في آليات عمل النظام الدولي.
فشل أمريكا في الامتثال لآلية عمل المنظومة الدولية، أو بالأحرى تجاوز وانتهاك هذه الآليات هو ما فتح الطريق لاحقاً لتكرار خطوات غير قانونية كهذه، كما حدث مع اجتياح روسيا شمال جورجيا، واحتلال أقاليم أوسيتيا وأبخازيا في 2008، ومن ثم تكرار تجربة مشابهة عبر احتلال شبه جزيرة القرم، ومؤخراً بعض الأقاليم الشرقية من أوكرانيا. هذا التوجه في العمل المنفرد، وبعيداً عن دعم أو شرعنة المنظومة الدولية، سوف تستغله كل الأطراف لصالحها، إذ قد تعمل الصين في الفترة القريبة القادمة لضم تايوان.
الحرب على غزة لم تكشف فقط تعطيل المنظومة الدولية من خلال إعاقة عمل مجلس الأمن، الذي يمثل الأداة الرئيسية لإدارة الصراعات الدولية والجهة الموكل إليها تحقيق الأمن والسلام الدوليين، بل أظهرت أيضاً العجز الفاضح لهذه المؤسسات، وضربت صميم المنظومة القيمية القائمة على القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، من خلال ازدواجية المعايير الدولية.
فقد بدا السكرتير العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكثرَ من عاجزٍ وهو يناشد "باسم الإنسانية" مجلسَ الأمن لإصدار قرار بوقف إطلاق النار، وهو ما كرره وكيله للشؤون الإنسانية مارتن غريفث بلا جدوى ولا آذان صاغية. فيما لم يجد موظفو مكاتب الأمم المتحدة في جنيف، العاجزة عن حماية حتى موظفيها، أكثر من أن يحنوا رؤوسهم أمام شمعة تم إشعالها تخليداً لذكرى 101 موظف في وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا) قُتلوا في الهجوم الإسرائيلي على غزة.
بالتأكيد حرب غزة الأخيرة ليست الفشل الأول لهذه المنظومة، فقد فشلت سابقاً في إيقاف الحرب الأهلية في رواندا، وعجزت عن حماية المدنيين من المجزرة في سربرنيتسا، لكن أثر الحرب في غزة هذه المرة كان أعمق من الأزمات السابقة التي عاشها المجتمع الدولي، لكونها جاءت عقب أزمة أوكرانيا، والتي استخدمت فيها الدول الغربية كل ادعاءات القوانين الدولية، وعلى رأسها عدم قبول احتلال أراضي دولة أخرى بالقوة، وكل ادعاءات الأعراف الدولية، وعلى رأسها حقوق الإنسان في وجه روسيا وعدوانها على أوكرانيا.
الفترة الزمنية القصيرة بين بداية الحرب الأوكرانية التي ما زالت مستمرة، والحرب في غزة التي بدأت قبل شهر ونصف الشهر من الآن، جعلت التفاعل مع ازدواجية المعايير الدولية أكبر، وضاعفت من أثر حرب غزة على شرعية المنظومة الدولية. كما أن ذلك وضع بعض الدول وسياساتها الخارجية تحت المجهر، كما هي الحالة في ألمانيا، والتي تدعي أنها تتبع سياسة خارجية نسوية تحت قيادة وزيرة الخارجية "بايربوك" الممثلة عن حزب الخضر. ففي الوقت الذي تدعي فيه ألمانيا انتصارها لحقوق الإنسان في أوكرانيا، فإنها تدعم وبشكل أعمى سياسات إسرائيل اللاإنسانية في التطهير العرقي للفلسطينيين في قطاع غزة.
الضرر الذي ألحقته السياسات الغربية تجاه حرب غزة وانحيازها الأعمى للعدوان الإسرائيلي سيكون له بُعد عميق، ليس فقط على موقف هذه الدول وسمعتها الدولية، بل أيضاً سيكون له ضرر على صورة المنظومة الدولية والإيمان بها، كآلية لحل، أو على الأقل لإدارة الأزمات والنزاعات المختلفة. وذلك لأن الأهم في تشكيل المنظومة الدولية وآليات علمها ليس قدراتها ولا الخروقات التي تطال عمل هذه الآلية، بل كيف يتم فهمها وتفسيرها من قِبل اللاعبين المختلفين، خاصةً في ظلِّ الطبيعة التعاقدية للعمل بين هذه المنظومة ومكونات المجتمع الدولي الممثلة في الدول. كما أنه من المؤكد أن بعض اللاعبين الدوليين كالصين سوف يعملون على استغلال هذه الشقوق في المنظومة الدولية لأبعد مدى ممكن، أو حتى العمل على تعميقها.
لعلنا سنعود لحرب غزة بعد عقود من الآن لنرى كيف كانت هذه الحرب إحدى نقاط التحول التي أسهمت في تقويض المنظومة الدولية الحالية، في الوقت الذي يحتاج الغرب أكثر من غيره للحفاظ على النظام الدولي، المؤسَّس على القواعد والأعراف، لإدارة هبوطه في ظل صعود النظام الدولي متعدد الأقطاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.