شكراً يا غزة.. شكراً لأنك فرضت نفسك على العالم في الوقت الذي انتشرت فيه الأخبار الساقطة والتافهة.. شكراً لأنك انتصرتِ رغم الحصار، وفزتِ رغم الخسائر، وثبتّ رغم الجراح في وجوه التتار.
شكراً يا غزة؛ لأنك أعدتِ قضية الحق والباطل لدائرة الحدث من جديد، ساهمتِ في زيادة وعي الناس حول القدس والأقصى، أجهزتِ على أحلام التطبيع وآمال التهجير وخطط الاستيطان.
شكراً لأنك رويت بدماء أطفالك تراب الأمة القاحلة؛ فغرستِ في قلوب الجيل الجديد جذور عقيدة وأغصان شموخ وثمار عزة.. شكراً لأنك دفنتِ آلاف الأطفال؛ ليحيا ملايين الأطفال في عزة وشموخ؛ فسنبلة قمح تجف تملأ الدنيا سنابل.
شكراً يا غزة.. شكراً لأن عطر الثبات الذي خرج من تحت أنقاض بيوتكِ عطّر الأجواء، فاستنشق المسلمون منه عبير الجهاد وعطور العزة ونسائم الحرية.
شكراً لأنك أعدتِ رسم الخريطة من جديد.. شكراً لأبطالك الصامدين الذين برهنوا على أن إيمان الفئة القليلة أقوى من تجمعات الدول.. شكراً لأنكم برهنتم على أن الصعب ليس مستحيلاً، وأن الحريةَ تُنتزعُ لا تُطلب:
وما استعصى على قوم منال.. إذ الإقدام كان لهم ركابا
وما نيــلُ المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
شكراً ليوسف (أبو شعر كيرلي)، وللرجل الذي أعطانا درساً في العقيدة بجملة واحدة: "كلنا مشاريع شهادة.. أرض رباط يا زلمة".. شكراً للمرأة التي قالت وهي تدفن أبناءها: "كلهم فداء لفلسطين"، وللثابتة التي قالت: "طالما المقاومة بخير نحن بخير".. شكراً لهم جميعاً بحجم انتشار جملة "روح الروح"، التي ودع بها الجد ابنته، وبحجم "معلش" التي ختم بها الدحدوح وداعه لأهله.. شكراً لكل عين دمعت، ولكل قلب بكى، ولكل صدر احترق، شكراً لكل أب ودع ابنه صابراً ثابتاً راضياً، ولكل أم دفنت أحلامها وسعادتها في قبور أبنائها راضية محتسبة، ولكل مقصوف انخلع كبده من الفزع والأنين واسترده بالرضا واليقين.
شكراً للأطفال الذين كبروا قبل يومهم، وشابوا قبل أوانهم، وتحملوا المسؤولية قبل بلوغهم.
شكراً يا غزة، أعدتِ اتجاه بوصلة الجيل الجديد، ففخر العرب عندهم هم الثابتون، والنجوم عندهم هم المجاهدون، والقدوة عندهم هم الثابتون الصابرون، جعلتِ شباب الأمة ينتظرون خطاب الملثم أكثر من انتظارهم للمباريات، يكبّرون أثناء خطابه أكثر من تهليلهم في المدرجات.. شكراً لأنك أعطيت دروساً عملية في العقيدة لأمة بأكملها، دروساً تغني عن مليون محاضرة نظرية ومليار خطبة جماهيرية من شيوخ السلطان، ولأول مرة نجد المعلم هو من يدفع الثمن ليتعلم تلاميذه مجاناً؛ فقد علمتِ الأمة بدماء لا بمداد، وبجراح لا بصياح، وبأفعال لا بكلام.
شكراً يا غزة؛ فرغم الجراح مهدتِ الطريق للصباح، زرعت بساتين الأمل في صحراء قلوبنا، جعلت الناس ينامون على أمل خبرٍ مفرحٍ، ويقومون باحثين عن إنجازٍ جديدٍ أو صيدٍ ثمينٍ أو مدرعةٍ محترقةٍ.
شكراً يا غزة، أعدتِ فريضة كانت غائبة منذ زمن بعيد؛ فكثيرون حدثوا أنفسهم بالغزو والجهاد بعد ثبات عميق، وكثيرون جاهدوا بمالهم؛ ليكون لهم سهم في النصر القريب؛ فشكراً لكِ ولكل من وقف معك بقلبه وماله ودعواته ودموعه وبيته وأهله.
شكراً لأنكِ رغم جراح ثغرك ما زلتِ تبتسمين، تنتظرين إخوانك العرب غير معاتبة على الخذلان.. شكراً لأنك تلتمسين الأعذار لجيرانك الذين حبسهم العذر، وتسامحين الذين تفيض أعينهم من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، شكراً لسلامة صدرك وكرم أهلك، شكراً لأنكم لا تلومون من تركوكم تحت القصف دون دروع إخاء، وتركوكم تنامون على الأرض دون فراش تكافل، وسلموكم لبرد الشتاء دون غطاء تضامن.
شكراً يا غزة.. قللت في أعيننا مشاكلنا، قزمت همومنا ومصائبنا مقابل همومك وأحزانك، شكراً لأنك عظّمت في أعيننا النعم التي حبانا الله إياها ولم نكن نشعر بها، وسّعت بيوتنا وجمّلت حياتنا في أعيننا؛ فيكفي أننا ننام دون قصف، ونقوم دون ركام، ونأكل دون فقد، ونشرب دون تعب، شكراً لأنك أضأت -رغم انقطاع الكهرباء عنك- المستقبل لجيل عزة جديد.
ونحن إذ نتقدم بشكركم؛ نثمن ثباتكم، ونرجو لكم نصراً يشفي به اللهُ صدوركم وصدور قوم مؤمنين، ونبشركم بالنصر والتحرير، ونقول لكم: لا تهنوا ولا تحزنوا، فالعالم كله يشهد أنكم الأعلون رغم ما تمرون.
اعلموا يا أبطال العرب أن هذا الوقت سيمر، وهذا الجرح سيندمل، هذا الليل يعقبه صباح، هذه الغيوم تبشر بنزول الغيث، هذا العسر سيعقبه أجمل يسر:
وما من شدة إلا سيأتي.. لها من بعد شدتها رخاء
شكراً يا غزة.. شكراً لأننا مدينون لك بأفراح قادمة، وبشريات منتظرة، وسعادة غامرة، على أمل أن نقدم لرجالك الشكر والاعتذار في ساحات الأقصى وساحات الانتصار "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.