انتهت الهدنة الإنسانية الأولى في غزة، والتي امتدت عملياً إلى جبهة الكيان الشمالية، حيث تكشف بشكل أكبر حجم المجازر المرتكبة بحق الغزاويين، بشراً وحجراً وشجراً.
على المقلب الآخر، ضاعف هذا الحجم من الدمار أسئلة أساسية لدى شريحة من الجمهور العربي، وبرزت بشكل أكبر في لبنان الحدودي مع إسرائيل، والذي يساند غزة جزئياً في حربها. هذه الأسئلة وإن ظهرت للبعض سطحية، إلا أنها ما زالت تتداول في بيئات معينة تغزيها قنوات إعلامية تسوّق لسرديات محددة.
نحاول في هذا المقال المنقسم إلى جزأين اختصار بعضها، والإجابة عنها بهدوء. بينما نركز على أسئلة متعلقة بغزة في المقال الأول، نتحول نحو أسئلة لبنان في المقال اللاحق.
يقولون: حماس هي التي أطلقت الحرب واستفزت إسرائيل، لذلك تقع عليها مسؤولية القتلى والدمار المترتبة على الحرب. حماس هي التي لا تريد السلام والفلسطينيون يتحملون أثر خيارات حماس المتهورة.
نقول إن هذا الطرح مغلوط؛ لأنه يعتبر أن التاريخ قد بدأ في 7 أكتوبر، ويتناسى أن الكيان الاسرائيلي أُنشئ على جثث الفلسطينيين قبل وجود حماس، وقد فرض طوقاً محكماً على غزة وحاصرها وقتّل ويقتّل أهلها بشكل يومي، وقدم ويقدم بالمستوطنات الأراضي المحررة. كذلك، خبر الفلسطينيون خيار السلام والتجربة لا تزال حاضرة في الضفة، والتي تظهر بوضوح كيف تأكل مناطقها تدريجياً وكونها ستأكل بشكل كامل مع الوقت إذا استمر الحال على ما هو عليه حتى تمحى الأراضي الفلسطينية بشكل تام. فعلى سبيل المثال تضاعف عدد المستوطنين (غير القانوني) 7 أضعاف بعد اتفاقية أوسلو والسلام مع إسرائيل حتى احتلت هذه المستوطنات 40% من مساحة الضفة! أما القدس فقد أحكمت السلطة الإسرائيلية يدها عليها، وسحبت الهوية الخضراء من آلاف المقدسيين وبنت جداراً عازلاً ومنعت الأنشطة الفلسطينية فيها، كما تضاعف عدد المستوطنين في المدينة للضعف تقريباً ولاحقت الناشطين المقدسيين حتى إلى خارج المدينة في وقت تتجه فيه القيادة الإسرائيلية نحو اليمين أكثر فأكثر ويدعمها العالم بشكل أو بآخر في إنهاء القضية الفلسطينية. إذاً، فإسرائيل دأبت على قتل أهل غزة والضفة والجلوس مكانهم وتصويرهم أنهم هم المجرمون ولم يحتجّ الإسرائيلي يوماً إلى حجة ليفعل ما يفعل، وهو ولولا العملية لتابع مساره بالقتل البطيء، ولكن المستمر والمريح كما فعل لعقود.
آخر هذه الاعتداءات كانت المتكررة على القدس الشريف، والتي كانت تحضر كما قرارات الدول الكبرى لشطب القدس من خريطة فلسطين.
إذاً، فالسلام وترك المقاومة هو الاستسلام بعينه وذبح القضية الفلسطينية، وهذا واضح من كون هدوء الجبهة في الفترة الماضية دفع دولاً عربية كثيرة لفتح باب التطبيع الرسمي مع الكيان إضافة لتسارع عمليات الاستيطان في الضفة واتجاه إسرائيل نحو اليمين ومحاولة تسريع عملية الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية المتبقية، كل ذلك لأن المقاومة خفتت فقط!
عليه، فإن خيار الاستسلام يعني إنهاء القضية الفلسطينية محلياً وعملياً، ولا يعني بتاتاً تثبيت الواقع السابق، وهذا واضح للكبير والصغير.
بناءً على ما تقول، ولو كانت إسرائيل تأكل المتبقي من فلسطين، وتقتل أهلها تدريجياً، فهل ما فعلته حماس غيّر شيئاً غير ضرب غزة بشكل أسرع؟
نعم إن أثر عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول الإيجابي كبير جداً على مختلف الأصعدة، نعدِّد بعضها:
– ضرب اليمين الإسرائيلي وإخراجه من المعادلة السياسية، وبالتالي تخفيف الإجرام الإسرائيلي في الضفة، وليس العكس.
– إنهاء حياة نتنياهو السياسية، وتعزيز الخلافات داخل الكيان، وهو ما سيظهر بشكل واضح بعد انتهاء الحرب.
– ضرب موجة التطبيع العربي مع إسرائيل.
– ضرب خط الولايات المتحدة الاقتصادي من الهند إلى أوروبا، والذي من المفترض أن يزيد الشراكة العربية الإسرائيلية، ويرفع أهمية إسرائيل الجيوسياسية والاقتصادية.
– ضرب صورة الجيش والمخابرات الإسرائيلية التي لا تُقهر، وأدخل كلمة "ممكن" في مواجهة هذا العدو، والذي كان يُعتبر بالنسبة للغالبية لا يُقهر.
إن ضربة القسام للكيان في العمق، والقسام قوة محاصَرة في جغرافيا ضيقة ودعم مخنوق، يفتح العقول أمام إمكانية مواجهة الكيان وتهديده، في حال توفرت إمكانية أعلى من المتوفرة اليوم لدى القسام، وهي شيء بسيط من إمكانيات الدول العربية المختلفة. حتى لو لم تتحرك الجيوش في وجه إسرائيل، فإن موقفها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول تحسن بشكل تلقائي أمام الكيان من الناحية النظرية والمعنوية، والمتبقي التفاعل والاستغلال السياسي.
– إحياء القضية الفلسطينية في عدة أجيال، لم تكن تدرك القضية بعد، إما لصغر سنها أو لكونها أغرقت بقضايا بلدانها الداخلية. بالتالي أُعيد إحياء القضية الفلسطينية في القلوب لعقود قادمة على قاعدة العزة والإقدام لا الشفقة والعطف.
إحياء صورة النموذج القدوة المنخرط في قضايا المجتمع بعد أن أصبحت قدوات الجيل الحالي نماذج تافهة.
كان التوجه العالمي نحو طي صفحة القضية الفلسطينية عبر عدم الاكتراث بها وجمع الدول العربية مع إسرائيل في صفقات ثنائية لا تهتم بالقضية الفلسطينية فتدفن القضية بالإهمال. أم اليوم فالجميع يتحدث بأن هذه الطريقة غير مجدية، وبأن حل القضية الفلسطينية لن يكون إلا عبر التواصل مع الفلسطينيين أنفسهم.
ارتفاع منسوب الغضب العربي من حكام بلدانهم ومضاعفة تكشف صورتهم أمام شعوبهم، وهو ما يؤسس لتغيير، خاصة مع الأجيال التي عُمل على طمس هويتها وإشغالها بالترفيه من جهة، والأساسيات المعيشة من جهة أخرى.
حصل القسام على عدد كبير من الأسرى، ما يفتح الباب أمام إمكانية إخراج عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، وربما جلهم، في وقت لا يزال هناك أسرى لحركة فتح، فاتحة السلام مع إسرائيل، والتي لم ينفعها هذا السلام في إخراج معتقليها.
انكشاف حقيقة الكيان الإسرائيلي لجيل كامل بعد أن اكتشفت أجيال سابقة هذه الحقيقة في حروب سبقت، بينما غابت عن أجيال صغيرة بسبب هدوء الجبهات. كما كشّرت الولايات المتحدة عن أنيابها، ما أظهر منهجها السياسي الحقيقي وهو الواقعية السياسية والمصلحة الجيوسياسية، وأظهر بشكل جشع صورتها الأخلاقية الحقيقية، وكشف زيف شعاراتها الإنسانية، هي ومن لحقها من دول الاتحاد الأوروبي.
هذا الانكشاف الغربي عرّ الدول الغربية وإعلامها أمام الشعوب الأجنبية التي يظهر لها الحقيقي بشكل تدريجي، والعربية التي سُحق بعضها ثقافياً على مر العقود.
لعلّ الجرعة الزائدة من "اللبرلة" والضخ الإعلامي التي تلقتها بعض فئات المجتمع، جعلتها لا تهتم إلا بنفسها وجعلتها منسحقة أمام الآخر، ولا مشكلة لديها في الاستسلام، وتحولت نحو الحرص على حياة أي حياة عكس ما كان عليه العرب، وما أمر الله به عباده من العزة والكرامة والثبات ووعد الآخر والاستعداد للتضحية لأجل الأجيال القادمة، بل انقلبت القواعد لدى فئة نحو الاهتمام بالمصلحة الفردية والحفاظ على الروح كهدف وحيد، ولو كانت ضريبته الذل فتتمخض عن ذلك أسئلة هذا منبعها الرئيس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.