على مدار ما يقرب من 10 سنوات من عملي الحقوقي؛ لم يراودني شك أبداً في أن المؤسسات الأممية والآليات الدولية المعنية بحقوق الإنسان أسيرة أهواء قوى شريرة جعلت منها مجرد أداة تبتز من خلالها مجرمي الحرب هنا والسفاحين هناك لتحقيق مصالح خبيثة على جثث الأبرياء في شتى بقاع الأرض.
وضعت هذه الحقيقة نصب عيني منذ اللحظة الأولى لهذا العمل، واكتفيت بما يمكن أن يكون هدفاً بعيداً عن الجانب الإجرائي الذي يمثل أهم طرق إنصاف الإنسانية ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فانطلقت أنا وغيري من المؤمنين بالعمل الحقوقي نحو العمل على الرصد والتوثيق بغرض حفظ كل ما أصل إليه من معلومات حول الوقائع والانتهاكات، لعلني أصل في النهاية إلى تكوين ملف للعدالة الانتقالية يمكن من خلاله استعادة حقوق الضحايا ولو بعد حين، ومهما مرت السنون قبل أو بعد رحيل الضحية والسفاحين.
أيضاً اعتمدنا المتاح من أدوات الصحافة والإعلام سلاحاً لمواجهة منتهكي حقوق الإنسان وفضحهم وتعريف البشر بالقصص الإنسانية لضحايا لم يقترفوا جرماً أو إثماً، حتى تنال منهم قوى البطش والظلام بأمر من أعداء الإنسانية اللئام. استخدمنا الإعلام لمحاولة الضغط على المنتهكين، لعل وعسى تنتهي معاناة مظلوم أو تخفف عنه الضغوط والقيود في سجنه الضيق بين 4 جدران أو كان في سجن كبير.
هذا هو الحال، في سنين طوال، توارت فيه حقيقة تأميم المؤسسات الأممية، واستمر فيها الغرب في التمثيلية، ولكنه تبدل على إثر ما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والذي لا يختلف عما سبق من جرائم تتداعى لها الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني وأرضه إلا في الكم والمدى الزمني ووضوح الدور الغربي بروح لا تحمل إلا الدموية والشر المطلق لا غير ذلك.
إن جرائم الحرب الحالية في غزة، والتي لم تعرف الإنسانية مثيلاً لها في التوحش وكم الضحايا والخراب واستهداف كافة المنشآت المحمية من مستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس ومرافق مدنية وأحياء سكنية، كشفت حقائق لطالما استطاع الغرب أن يواريها ويبدي ما ليس فيه من خير وإنسانية، وينعت ضحاياه بأبشع الصفات والوحشية.
الحقيقة الأولى أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لم يتخلص بعد من موروثه الدموي، وتوقفت نفسه في العصور الوسطى، واقتصر التطور على استحداث أشكال حديثة تواكب العصر لتطبيق مفاهيم الدموية واللا إنسانية بشكل معاصر لتحقيق مكاسب غير مشروعة بسرقة ثروات غيره وحرمان البشر من أبسط حقوقهم في بلادهم.
الحقيقة الثانية أنهم رأس الحربة في مواجهة الشعب الفلسطيني وقوى الاحتلال الحقيقي للأرض وتوطين أصحاب المشروع الصهيوني، ليكونوا عساكرهم في المنطقة لضمان عدم نهوض أمة عربية على فراش الموت بفضل حكامها من جهة، وإبعادهم وبلائهم عن بلادهم من جهة أخرى، أكاد أجزم أن الغرب لا يريد لما تسمى (بإسرائيل) أن تنعم بتمام الاستقرار ومضاعفة قوتها، والتخلص الأبدي من أية مقاومة تهددها، لأن حدوث ذلك سيفقد الغرب دوره الحامي لها، وربما ينقض هؤلاء العساكر على حماتهم بعد تمدد دولتهم المزعومة وغزو الغرب ذاته.
وبالتالي يمكن القول بأن بعبع المقاومة، بما لا يؤثر على وجود دولتهم المزعومة، ربما يروق للغرب الدموي عاشق الدماء، الذي يسعى لتدجين المقاومة كما حدث مع حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية لتقوم بالدور الوظيفي الذي يريده الغرب لتحقيق مصلحته، وتتمنى نفس السيناريو مع حماس وأخواتها من قوى المقاومة التي تدافع وبحق عن أمة بأكملها بعد أن ضاعت قوتها بيد قادتها المعينين بغير رضا من الشعوب.
الحقيقة الثالثة هي أن الأمم المتحدة والمؤسسات الأممية التابعة لها فقدت شرعيتها بسلبيتها وعجزها عن حتى مجرد وصف ما يحدث في غزة بجرائم حرب، وعدم إعلانها صراحة بأن القانون الدولي لم يمنح المقاومة ما يسمى بالحق في الدفاع عن النفس! على النقيض تماماً نجد عبارة (من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها) على لسان أغلب مسؤولي المؤسسات الأممية دون خجل أو بصيص من احترام للقانون الدولي، وهم المعنيون بتنفيذه والعمل في إطاره!
الحقيقة الرابعة تتلخص في أن حاملي المشروع الصهيوني، سواء الديني أم السياسي، أثبتوا يقيناً أنهم مجموعة بشرية أخرجت نفسها من الجماعة الإنسانية، بل وفاقدة لأبسط معانيها، وأنه لا يمكن التعايش معهم، فلا حياة مع الصهاينة، ولا صهاينة مع الحياة، ما دامت القوة في يدهم فلن ينعم أي إنسان يختلف معهم بحقه في الحياة دون قيد أو شرط، ولن تشفع له معهم لا طفولة ولا كهولة. نفوسهم تحمل من السواد والخراب والتشوه ما يكفي لدمار كوكب الأرض بأكمله واجتثاث إنسانيته.
أما الحقيقة الخامسة فقد جاوزت ساحات الحرب والسياسة، وكانت بمثابة إجابة عن سؤال ظل عالقاً في ذهني سنوات حول كيفية فلسفة خيال كُتّاب السينما الغربية في أعمالهم حول الزومبي ومصاصي الدماء؟ تصورات غير واقعية للبشر من حيث السلوك المادي لهذه الشخصيات المصنوعة في قصصهم، فمن أين لهم بهذه الصورة؟ فالكاتب يصنع خياله من بيئته التي تؤثر فيه، فإما يعبر عنه بأشكال عدة أو يذهب بعيداً ولكن تظل بيئته هي نقطة الانطلاق مهما أبحر في الكون وتعمق في دهاليزه.
من الواضح أن أصل هذه التصورات نابع من نفس غربية صاحبة التاريخ والحضارة في الدموية، وأن الزومبي ومصاصي الدماء ما هي إلا تجسيد حقيقي لجوهر نفس بشرية تشبع رغبات الجوع بالطعام كباقي البشر، ولكنها لا تجد غير الدماء تروى به الأرواح الشريرة التي لا تتداعى إلا لبني فصيلتها، وما حدث في أوكرانيا ليس ببعيد عنا.
50 يوماً من جرائم الحرب حصدت خلالها الآلة الصهيونية المظلمة أكثر من 14 ألف إنسان، ما يقرب من نصفهم أطفال، وربعهم نساء، بخلاف التدمير الهائل للعمران، وما زالت الحرب المسعورة مستمرة وكأن ما حدث لم يشبع رغباتهم التي جاوزت في فجرها رغبات أسلافهم الشيطانية، والتي صنعت تاريخاً من الفظاعة وحضارة من التوحش بشكل تعجز معه أي أمة عن منافستهم في تاريخهم وحضارتهم.
ففي الوقت الذي يجد فيه أهلنا في غزة أنفسهم بين مطرقة معدومي الإنسانية من أتباع الصهيونية بشرّهم المطلق، وسندان أصحاب نظرية الإنسانية الانتقائية أصحاب الوجوه الصفراء العكرة من الغربيين؛ نجد حكومات عربية وصل بها الحال إلى الانبطاح بلا خجل، بل وتنفيذ تعليمات نتنياهو الذي قال لهم (اخرسوا)، فاستجابوا صاغرين وانصاعوا صامتين كما جاء الأمر لهم!
50 يوماً من استهداف البشر والحجر قتلاً وتدميراً ومحواً لكل مظاهر الحياة، في مشهد يعجز فيه الباحثون عن حصر كم المجازر والجرائم وسياسات التهجير والتجويع والتعطيش والإيغال في إيلام الضحايا، في سابقة لا أعتقد أن لها مثيلاً في التاريخ البشري، وتستعصى عن أي استيعاب عقلي.
وأخيراً بدأت هذه النفوس المنهكة في أن تتنفس بإقرار هدنة -موصوفة بالإنسانية كذباً- ستتوقف فيها العصابات الهمجية عن القصف والقتل، لعل وعسى تنعم هذه النفوس بقسط من الراحة، ويقدر لها البحث عن ذويها وأحبائها بعد أن فرقت شملهم قذائف وصواريخ أعداء الإنسانية وجرائمهم الوحشية، سيبحثون بلا يقين حول مصير المفقودين، وتتزاحم علامات الاستفهام في عقولهم، فهل هم أحياء لم يصبهم مكروه أم أصيبوا ولا يجدون علاجاً؟ أم ما زالوا تحت الركام؟ أم دفنوا في إحدى المقابر الجماعية وكتب على أكفانهم "مجهولو الهوية"؟
هدنة فرضتها المقاومة وحدها بعد أن فشلت عصابات الصهاينة في تحقيق أي هدف على الأرض، وعجزت عن الوصول إلى أسراها بالقوة العسكرية الفاشية، وسط ضغط مجتمعي عليها لاستعادتهم والرضوخ لمطالب المقاومة الفلسطينية، وسيذكر التاريخ أن هناك هدنة سينال من خلالها الضحايا راحة مؤقتة سيتمتعون فيها بالحماية والحصول على جزء من احتياجاتهم التي من المفترض أنها مكفولة ومحمية وقت المعارك، كونهم مدنيين، كونهم أطباء، كونهم مسعفين، كونهم مرضى، كونهم أطفالاً، كونهم نساءً، كونها مستشفيات، كونها محطات تحلية مياه، كونها مساجد، كونها كنائس، كونها أحياءً سكنية، كونها طرقاً، كونها مدارس، كونها مقرات تابعة للأمم المتحدة، كونها محطات كهرباء، كونها مستودعات أدوية!
كونها كل شيء محرم ومجرَّم استهدافه، ولكن هذه العصابات الهمجية ذات الأصول الغربية لا عقل لها لتأبه بهكذا قيم، ولا ضمير لها يحكم فيضرب هذا الحقير كل ما هو إنساني ولا يتألم، بل على العكس ينتشي ويرغب في المزيد!
في النهاية واختصاراً، إن لاح في الأفق انتصار للإنسان والإنسانية سيكون بيد المقاومة الفلسطينية في غزة وأخواتها الذين يحاربون الهمجية والعصابات غير الإنسانية بالنيابة عن كل العالم بعد أن فقد هذا العالم إنسانيته بمواقف حكومات ومؤسسات لا يسع بعضها إلا المشاهدة، وربما تعقيب على استحياء، والبعض الآخر لا يجد حرجاً في الجهر بالهمجية وتقديم كل أنواع الدعم للعصابات الصهيونية.
فلا الـشرق بقي فيه ذرة من مروءة الأجـداد
ولا الغـرب المنحط عن دموية أسـلافه حـاد
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.