"إذن، أيها الرفاق، كيف لا نفهم أن لدينا ما هو أفضل للقيام به من اتباع أوروبا".
فرانز فانون في خاتمة كتابه (معذبو الأرض)
إن أعظم أزمة إنسانية وأخلاقية تعيشها البشرية اليوم هي المذبحة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. فجرائم الاحتلال ضد الإنسانية، المستمرة منذ سنوات، تتواصل بشكل مكثف منذ أكثر من 50 يوماً. لكن يبدو أن ما يسمى بالتفوق القيمي والأخلاقي الذي فرضه الغرب على العالم كله منذ قرون، يظهر وجهه الحقيقي في رد الفعل على ما يحدث في غزة اليوم، لأن العديد من المفكرين والمثقفين الغربيين إما أنهم صامتون أو متماهون داعمون للمذبحة التي تقع أمام أعين العالم.
وكان أقوى مؤشر على هذه الحالة هو الإعلان الذي وقعه الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس وثلاثة مفكرين آخرين، لأنه ربما أظهر هابرماس للعالم أجمع، بالإعلان الذي وقعه، المشاكل الكامنة وراء القيم التي أسسها الغرب خلال قرون وفرضها على العالم أجمع. بمعنى آخر، اختار هابرماس والعديد من المفكرين الآخرين أن يظلوا عُمياً عن الإبادة في فلسطين، مما يثبت أن هيمنة الغرب على القيم ليست أخلاقية، بل هي أداة لتبرير نفسها أو الحصول على ميزة.
وجهان لعملة واحدة
قبل هابرماس، كتب المفكر الشهير، سلافوي جيجيك، مقالاً عما يحدث في فلسطين. ووصف جيجيك في مقالته هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بأنه "مذبحة"، وادعى أن حماس تهدف إلى تدمير دولة إسرائيل والإسرائيليين بهذا الهجوم. لكنه استدرك بأن الموقف يتطلب سياقاً تاريخياً، لا كمبرر من أي نوع، بل من أجل الوضوح. وناقش السياق التاريخي المعني من خلال الهجمات الانتحارية الفلسطينية قبل 10 سنوات، وتحوّل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية مع حكومة نتنياهو.
أول ما لفت انتباهي في مقالة جيجك، أنه تجاوز وقائع التاريخ، وتخطى حتى ذنب المساواة بين الجلاد والضحية، حيث وصف هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بأنه مذبحة، بينما وصف الهجمات الإسرائيلية ضد فلسطين بطريقة أخف بكثير، ويكاد يبرر هذه الهجمات باعتبارها "الحق في الدفاع عن النفس". علاوة على ذلك، يؤكد ضرورة دعم إسرائيل بلا قيد أو شرط. إذ ينظر "في رؤية التشابه الغريب بين الفلسطينيين، الذين حُرموا من وطنهم، واليهود، الذين يتميز تاريخهم بالتجربة نفسها". من دون أن يقول لنا جيجك من حرم اليهود؟ ومن أي وطن؟
ولكي يكون الخلط والتضليل كاملاً، يذهب جيجك ليضع حركة المقاومة حماس والمتطرفين الإسرائيليين في سلة واحدة، ليأتي لنا بالإجابة معلبة تشبه خطابات المنظمات الدولية، ألا وهي: أن التشدد والأصولية هما اللذان يقفان عائقاً أمام التعايش السلمي بين المحتلين الإسرائيليين والفلسطينيين أصحاب الأرض!
هابرماس وصحبته
بينما مؤخراُ، أطلق الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس موقفاً مكتوباً ممّا يحصل في فلسطين بعنوان "مبادئ التضامن". وقد وقّع النصّ، إضافة إليه، كلّ من الاختصاصيّة في العلوم السياسيّة نيكول دايتلهوف والحقوقيّ كلاوس غونتر والفيلسوف راينر فورست. وذكر البيان أن الهجوم الذي نفذته المقاومة يهدف إلى "تدمير الحياة اليهودية"؛ وذلك ما دفع إسرائيل إلى الرد. ولا يقف الأمر عند ذلك، فالرجل الفيلسوف التسعيني وأحد أهم علماء الاجتماع والسياسة والذي جلس إلى ما يقارب نصف قرن في المعاهد والمؤتمرات ليحاضرنا ويعلمنا عن التواصل وعلاقة الذات بالآخر، يرى أنه من الخطأ أن ننسب نية "الإبادة الجماعية" إلى أفعال الاحتلال الإسرائيلي.
بل أكد أن "الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود هما عنصران أساسيان يستحقان حماية خاصة في ضوء الجرائم الجماعية التي ارتكبت في الفترة النازية"، فبدون أي خجل يظهر هابرماس بوضوحٍ أن بعض المثقفين الألمان لم ولن يترددوا لحظة في إلقاء اللوم على الشعب الفلسطيني، ظناً منهم أنهم ربما بذلك قادرون على محو ماضي وتاريخ بلادهم الملطخ بدم اليهود.
تكمن المشكلة هنا في التناقض التام حتى لهذا الخطاب الرديء والمتواطئ، إذ إن موقف هابرماس وصحبته، والذي صيغ بكثير من الإيجاز، يتجاهل تاريخ الاحتلال، بل يشوبه كثير من العنجهية المبطنة في الفكر الغربي، حيث نراه ينزع عمّا يجري في غزة صفة "الإبادة الجماعيّة"، وتلك الصفة ليست بشهادتي أنا وصحبتي كما يفعل الفليسوف وصحبته، بل باعتراف المنظمات الدوليّة ذات الباع الطويل، في المقابل يصف ما قامت به المقاومة بأنه تدمير وإبادة ضمنية للشعب اليهودي!
يبدو أن الفلاسفة الألمان لا يتعلمون من ماضيهم، فكما رقص الفيلسوف الألماني هيدغر مع النازية، يرقص اليوم هابرماس وصحبته مع الاحتلال الإسرائيلي على أرواح الأبرياء في فلسطين.
في الواقع، إن تلك الانفصامية ليست بجديدة على هابرماس، فالفيلسوف صاحب مفهوم "الفضاء العمومي" وعاشق الجدل لم يكن لديه موقف مناهض لإسرائيل في الماضي، لأن تصريحاته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، من الماضي إلى الحاضر، تتسم بنبرة مكبلة ومقيدة لا تليق بفيلسوف، فخلال مقابلة أجراها عام 2012، سُئل عن أفكاره حول سياسة الاحتلال الإسرائيلي؛ ورد هابرماس قائلاً: "على الرغم من أن الوضع الحالي وسياسات الحكومة الإسرائيلية تتطلب تقييماً سياسياً، فإن هذه ليست وظيفة مواطن ألماني عادي من جيلي".
ورغم أن أساس الفلسفة هو المنطق والعقل الذي توضح به الأشياء، فإن عقدة الذنب الألمانية تطغى على أي عقل أو إنسانية، فمن خلال التركيز على عبارة هابرماس بأن "المواطن الألماني العادي من جيلي" نفهم ما تجسده ذكرى ماضي ألمانيا الدامي من عار تاريخي عليه. ومع ذلك، تصمم ألمانيا بثوب جديدٍ استحضار شبح الإبادة مرة أخرى لكن على جسد الفلسطينيين هذه المرة، كأنه إعادة توجيه لموروث معاداة السامية المتأصل في ثقافة اليمين الأوروبي.
خاتمة
يبدو أن أحكام الفكر الغربي القيمية والأخلاقية أصبحت مختلة وظيفياً في الممارسة العملية، فهابرماس الذي عاش عمّراً طويلاً وعاصر أغلب مراحل القضية الفلسطينية؛ من قتل وتهجير وتدمير؛ يدافع عن إسرائيل وعدوانها الوحشي. وهذا يبرهن على أنّ الجهد العقليّ، مهما كان سامياً، يخسر مصداقيته إذا لم يكن في خدمة الفضيلة. وما نراه اليوم لا ينم عن أي فضيلة، فما هو إلا تحويل للفلسفة كأداة هيمنة غربية على القيم، تهدف فقط إلى التبرير للمؤسسات الغربية والحفاظ على مكاسبها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.