لا تكف إسرائيل عن الترويج لنفسها ولكل ما يتبع لسلطتها من أجهزة ومؤسسات بمبالغة شديدة، فتارة تُسمي جيشها بالجيش الذي لا يُقهر، وتارة أخرى تصف جهاز استخباراتها "الموساد" بالجدار الفولاذي الذي لا يُخترق.
فيما يخص جيشها "الذي لا يُقهر" فقد استطاع الفلسطينيون اقتلاع الخوف وأسطورة هذا الجيش الخيالية من قلوب وعقول أجيال جديدة نشأت وهي تشاهد خيباته وانكساراته في معاركه مع المقاومة الفلسطينية مرات عديدة خلال الأعوام القليلة الماضية، وهي الأجيال نفسها التي تقف الآن خلف المقاومة في معركتها الحالية "طوفان الأقصى".
أما عن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، والذي صُنف بحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية كثاني أكبر أجهزة الاستخبارات العالمية بعد الـCIA الأمريكي، فقد كُسرت هيبته في السابع من أكتوبر 2023، حين كُشف عن الفشل الذريع الذي لحق بهذا الجهاز وقادته، وتبين أنه لم يستطع رصد تخطيط المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لعملية تسلل نحو ألف مقاتل فلسطيني إلى مستوطنات غلاف غزة براً وبحراً وجواً، في الوقت الذي كانت المقاومة تجري فيه عمليات المناورة الخاصة بها على أرض مكشوفة بالقرب من الحدود الإسرائيلية، هذا الانقلاب في الموازين دفع مجندةً إسرائيلية خدمت في الاستخبارات خلال حرب 2014 إلى التأكيد أن حدود غزة لا يمرّ بها طائر دون أن تعلم المنظومة الأمنية، فكيف باقتحام المئات!
أكدت وقائع الأيام الأخيرة أن حماس خاضت جملةً من تكتيكات الحرب الاستخباراتية، وجاء هذا الفشل الإسرائيلي ليكسر الأسطورة الوهمية التي رسمتها إسرائيل لجهازها الاستخباري. وفي الوقت الذي يُشهر فيه الإسرائيليون سيوف انتقاداتهم نحو جيش الاحتلال بسبب إخفاقه العسكري أمام مقاتلي حماس، كشفت وسائل إعلام تركية، يوم الأربعاء 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عن إحباط جهاز الاستخبارات التركية "MIT" محاولة الموساد اختطاف مهندس برمجيات فلسطيني من العاصمة الماليزية كوالالمبور إلى تل أبيب، العام الماضي 2022.
وتعود الحكاية إلى الفترة ما بين عامي 2015-2016، في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثالثة أو ما يُعرف بـ"انتفاضة السكاكين"، حينها كانت إسرائيل تسوّق لقبتها الحديدية على أنها واحدة من أعتى الدروع الحربية العالمية وأكثرها تطوراً، لاسيما بعد نجاحها في اعتراض ما نسبته 90% من صواريخ المقاومة خلال حرب العصف المأكول عام 2014، ثم جاءت المفاجأة لإسرائيل عندما تعطّلت تلك القبة الحديدية وعجزت عن اعتراض صواريخ أطلقتها المقاومة رداً على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى، وتضامناً مع الأحداث في الضفة الغربية.
بداية المطاردة
عمر البلبيسي تخرج في قسم علوم الحاسوب في الجامعة الإسلامية، وعمل موظفاً في قسم التكنولوجيا في وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة، استطاع تطوير برنامج خاص بالوزارة يساعد على اختراق أجهزة الأندرويد بسهولة في عمر الـ24. وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من كشف هوية البلبيسي، الذي كان وراء اختراق نظام القبة الحديدية وتعطيلها، بعد 3 سنوات على الحادثة.
وبحسب مصادر استخباراتية تركية، تكررت محاولات جهاز الموساد المتكررة لتجنيد البلبيسي، ففي عام 2019 تواصل شخص باسم "أنابل" مع البلبيسي، مدعياً عمله مع شركة برمجة نرويجية، وطلب منه تصميم مشروع برمجي خاص بالشركة، وبعد فترة من الزمن تواصل معه شخصان يدعيان "جاوسر" و"جالِس" بحجة أنهما من الشركة النرويجية نفسها، مقدمين له عرض عمل بشكل كلي في النرويج، وعندما طلب منهما التواصل عبر مكالمة الفيديو "واتساب" تهرَّبا منه، وأرسلا له فيزا "شنغن" كبرهان على جديتهما، ولكن البلبيسي أجاب عن عرضهما بالرفض.
المراقبة المستمرة خارج غزة واللقاء الأول
لم تغِب أعين عملاء الموساد عن البلبيسي، ذلك المهندس الشاب الذي قرر الانتقال إلى إسطنبول بهدف العمل، في مارس 2020، فكان الاحتكاك الأول بين البلبيسي والموساد بعد خروجه من غزة، في أبريل 2021، حين تواصل معه عميل الموساد المدعو رائد غزال عبر تطبيق "واتساب"، وادّعى أنه مدير موارد شركة فرنسية اسمها "Think Hire"، وقدّم له عرض عمل كذلك.
تمكّن غزال من لقاء عمر البلبيسي وجهاً لوجه في إسطنبول، وبالتحديد في منطقة بيليكدوزو، وبيرام باشا، والفاتح في يونيو وأغسطس 2021، قبل أن يبدأ عميل الموساد الثاني المدعو عمر شلبي فتح خط اتصال معه.
المهمة الأساسية لعملاء الموساد شلبي وغزال- الذي اختفى بعد ذلك- كانت اختطاف المهندس البلبيسي ونقله إلى تل أبيب، فبدأ شلبي بالتقرب منه وعرض عليه مبلغ 10 آلاف دولار، لإنشاء برنامج برمجة لشركة خاصة، فسارع ببرمجته وتسليمه لصالح الشركة الفرنسية، التي أرسلت بدورها الأموال على ثلاث دفعات عبر ضابط في الموساد، استخدم اسماً مزيفاً هو جون فوستر.
كان شلبي دائم السؤال عن وجود عائق أمام البلبيسي في حال رغب في السفر خارج تركيا، قبل أن ينسحب ويسلم المهمة لشخص يدعى نيكولا رادونيج (44 عاماً)، يحمل جواز سفر الجبل الأسود، في يونيو 2022. استطاع نيكولا أن يلتقي بالمهندس البلبيسي في فندق كاراكوي، الذي أقام فيه في الفترة ما بين 28-31 أغسطس 2022، بحجة عرض عمل جديد، كان ملخصه أن الراتب الشهري سيكون 5200 دولار في حال عمل البلبيسي من تركيا، في حين أنه سيصل إلى 20 ألف دولار إذا وافق على العمل من مقر الشركة في البرازيل.
وقال رادونيج للمهندس الفلسطيني إنهم سيعملون معاً في المشروع عبر الإنترنت مع زملاء آخرين- تبين لاحقاً أنهم ضباط بالموساد الإسرائيلي- وهم: عبد البر محمد كايا، وفؤاد أسامة حجازي، ومواطن مغربي يدعى يوسف دحمان، وطلب منه اختيار شخص منهم ليعمل معه بشكل متواصل.
تدخل الاستخبارات التركية
أدركت الاستخبارات التركية احتمالية اختطاف المهندس الفلسطيني، ما دفعها إلى منعه من السفر في المرة الأولى خوفاً على حياته، لكن مع إصرار البلبيسي على السفر إلى ماليزيا- التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل- في عطلة لمدة 15 يوماً، أبلغت الاستخبارات التركية إدارتها في إسطنبول حول الشكوك التي تراودها حول التهديدات التي تشكل خطراً على حياة المهندس البلبيسي، فتم إصدار جميع التحذيرات اللازمة قبل مغادرته تركيا، وتثبيت تطبيق تعقّب على هاتفه، كي تحصل بشكل مباشر على موقعه في ماليزيا حتى ولو كان هاتفه مغلقاً.
لدى وصول المهندس الفلسطيني إلى مطار العاصمة الماليزية كوالالمبور، يوم 28 سبتمبر 2022، تمكَّن فريق من الموساد كان بانتظاره من اختطافه واستجوابه في شاليه على بعد 50 كيلومتراً من العاصمة، حيث تعرَّض للتعذيب بشدة، والاستجواب لمدة 36 ساعة عبر الفيديو كونفرانس مع ضباط في تل أبيب.
تركزت أسئلة عملاء الموساد للبلبيسي حول كيفية اختراقه للقبة الحديدية وحجب رؤيتها للصواريخ لفترة من الزمن، كما حاولوا معرفة طريقة إلغاء تفعيل الاختراقات التي نفّذها المهندس الفلسطيني لهواتف جنود وضباط إسرائيليين في وقت سابق.
بالإضافة إلى ذلك، استفسر الموساد عن وجود مهندسي حاسوب، و مهندسي برمجيات، ومبرمجين آخرين يشاركونه حرباً إلكترونية في إسطنبول.
حالما تحققت الاستخبارات التركية من مكان وجود المهندس البلبيسي أرسلت على الفور إحداثيات الموقع إلى السلطات الماليزية، التي قامت بدورها بتنفيذ عملية تضم قوات خاصة، واستطاعت تحرير البلبيسي سالماً، واعتقلت محكمة في العاصمة كوالالمبور 11 شخصاً من المختطِفين.
كما قامت الاستخبارات التركية في الأسابيع الأخيرة بإلقاء القبض على عميل الموساد أسامة حجازي، ونقلت المهندس الفلسطيني البلبيسي إلى تركيا ووضعته تحت حماية أمنية تابعة لها.
يواصل جهاز الاستخبارات الأقوى في المنطقة ملاحقة الفلسطينيين في الداخل والخارج بميزانية سنوية تقدر بـ3 مليارات دولار، وحوالي 7000 موظف موزعين بين المكتب الرئيسي في تل أبيب وبقية المقار الخارجية، ويتواصل مع هذه المحاولات فشلُه، فعلى مدار السنوات الماضية فكَّكت الاستخبارات التركية عدداً من خلايا الموساد الإسرائيلي، التي حاولت العمل في الأراضي التركية واستهداف فلسطينيين وعرب ومصالح تركية.
كما تعود بنا الذاكرة إلى محاولة الاغتيال التي تعرض لها القيادي البارز في حركة حماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان عام 1997، والتي باءت بالفشل، وكلفت إسرائيل الكثير حينها.
تظهر هذه المحاولات الحرب الاستخباراتية الخفية التي تشنها إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، والحرص الشديد على منع وصول أي تكنولوجيا متطورة أو دعم لوجيستي من شأنه أن يخدم المشروع الفلسطيني، فهل ستنجح في ذلك أم أن مسيرة الفشل ستلاحق أجهزة استخباراتها؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.