على هامش الحروب التي لا تفرق بين مدني وعسكري ولا تميز بين مقاتلٍ ومراسل، تتوالى قصص الزملاء الصحفيين الذين يسقطون على درب الحقيقة ومذبح الرسالة الصحفية، عمداً وعن سابق تصورٍ وتصميم.
وإذا أردنا أن نتحدث عن "إسرائيل" وسجلها الإجرامي في هذا المجال، فلا تتسع الصفحات ولا تسعف الكلمات أي مدونٍ لتوثيق كم الجرائم التي ارتكبتها هذه "الدولة الدعية" بحق الصحافة في مختلف الميادين.
بالدماء الباردة وتحت أنظار العالم، تغتال إسرائيل أعضاء الجسم الصحفي بالصواريخ وبالرصاص الحي المباشر، وهي التي تعرف عن نفسها على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وأنها قوة "عظمى"، إلخ..
أي قوة هذه التي تزعجها "عدسة" الكاميرا؟
لأن إسرائيل "كذبة" لا تنسجم مع الحقائق
منذ قيامتها "دولةً مزعومةً" على الأراضي الفلسطينية التاريخية عام 1948، باشرت هذه "العصابات" التي صارت جيشاً نظامياً في ما بعد استهداف الصحفيين العاملين في وكالات محلية وفي الصحافة العالمية على حدٍ سواء، وفق الشهادات التاريخية التي دونت في الفترة التي تلَت النكبة.
ولأن "الاحتلال الإسرائيلي" بحد ذاته كذبة مستجدة ومفضوحة، مارس تضييقاً ممنهجاً على الكُتاب والمدونين وعلى التاريخ الفلسطيني، وإذا لم تكن كتب التاريخ والمخطوطات أصل الصحافة.. فما يكون؟
وبحسب "مكتبة المجلس التشريعي الفلسطيني" في رام الله، فإن الاحتلال باشر منذ عام 1948 حتى عام 2009 الاستيلاء على عدد لا يحصى من المكتبات الفلسطينية التاريخية ونهب الكتب والمجلدات والخرائط الموجودة فيها، في محاولة منه لطمس الحقائق التي تُنكر وجوده على هذه الأرض.
اغتيال الصحفيين مستمر بعد الألفية الثالثة
لم تتورع إسرائيل "الديمقراطية"، حتى بعد انتشار الوسائل الإعلامية الحديثة من صحف وإذاعات وتلفزيونات إلى وسائل التواصل، عن اغتيال الصحفيين بسائر الطرق المختلفة، في الحروب وفي "العمليات العسكرية" المتواصلة في الأراضي المحتلة.
ولو سلمنا جدلاً بأن "إسرائيل" هذه مارست القمع الممنهج ضد الجسم الصحفي والتاريخ بكتبه ومدوناته في الفترة التي سبقت انتشار المعلومات بشكلٍ واسعٍ ومتدفق، وأنها ربما "تابت" حياءً وخجلاً من الإدانة العالمية بعد العولمة.. إذاً كيف نفسر قتلها 46 صحفياً وإعلامياً منذ عام 2000 حتى عام 2021، وفق إحصائية "الاتحاد الدولي للصحفيين"؟
أين هذه الديمقراطية "الشرق أوسطية" التي لا تحترم المواثيق الدولية ولا الأخلاقيات والقوانين التي تحمي صحفياً أثناء قيامه بواجبه؟ تروج إسرائيل لنفسها على أنها خط الدفاع الأخير عن القيم والحرية والتعددية في المنطقة، لكن الوقائع تؤكد أنها "بريئة" من أي مبدأ.
أنا شيرين أبو عاقلة: أوضح الجرائم
في عام 2022، استهدف الاحتلال الإسرائيلي مراسلة "الجزيرة" شيرين أبو عاقلة برصاصة في الرأس أثناء تغطيتها اجتياح مخيم جنين. لم تشفع لشيرين كاميرا الجزيرة التي كانت توثق الجريمة على الهواء مباشرةً، ولم تُسعفها سترة الصحافة ولا خوذة "الحقيقة"، لتسجل وصمة عارٍ على جبين الاحتلال.
ولأن شيرين صحفية فلسطينية – أميركية، ولأنها أيضاً شيرين التي تعرفها كل الحروب الإسرائيلية والعيون العربية والغربية، اضطرت الأمم المتحدة إلى التحقيق في الجريمة، وأُجبِر جيش الاحتلال على الاعتراف بجريمته، لكن قاتلاً لم يحاسب، ولم تتحقق العدالة بعد في هذه القضية.
شيرين كانت جريمة واضحة لا لبس فيها ولا تأويل: لقد استهدفتها إسرائيل لتستهدف صوتها وجرأتها وحضورها، لتستهدف مؤسسةً مثلتها، ولتستهدف رأس الحقيقة المطلقة!
ما بعد طوفان الحقائق: عن غزة والضفة ولبنان
جاءت المواكبة الصحفية لـ"طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لتفضح إجرام الاحتلال أكثر فأكثر، خصوصاً على شاشات التلفزة، وهو ما أرق المجموعة الإسرائيلية الحاكمة، فانهالت بصواريخها على مكاتب الصحافة وبالرصاص على المراسلين في الشوارع، قتلاً واعتقالاً وترهيباً..
ولأن إسرائيل، رغم دعايتها العبرية – الغربية، لم تنجح في إضفاء المصداقية على روايتها، وقد لاقت هذه الرواية ما لاقت من التكذيب والنكران، ولأن الشاشات والأقلام دونت جرائم الاحتلال بحق المشافي ودور العبادة والمدنيين والأطفال، تقَرر معاقبة الصحافة لطمس الحقائق.
وإذ سقط ما يزيد على 48 صحفياً في غزة فقط خلال شهر ونصف وفق "مراسلون بلا حدود"، فضلاً عن عدد غير محدد من الصحفيين في "الضفة الغربية"، أقدم الاحتلال على اغتيال فريق عمل قناة الميادين جنوب لبنان، المراسلة "فرح عمر" والمصور "ربيع المعماري"، ودماء مصور رويترز "عصام عبد الله" لم تجف بعد..
يبدو أن الميكروفون الذي حملته فرح كان مزعجاً، وكاميرات ربيع وعصام كانت أوضح من "إسرائيل" بحد ذاتها.
لا تتوقفوا عن نشر الحقيقة رغم كل شيء
لا تتسع الصفحات لتدوين أسماء الصحفيين الناشطين والكتاب والمؤثرين والإعلاميين الذين قتلتهم إسرائيل على مر الزمان.. عن من أكتب؟ ومن أغفلت؟ ومن سأتذكر؟
لا إحصائيات دقيقة في هذه العملية الحسابية، لا رقمياً ولا اسمياً.. وإذا دونت المنظمات عدداً من الأسماء أغفلت أخرى، بين مفقود ومعتقل ومنسي، لكنني الآن أتذكر غسان كنفاني!
ربما لأن غسان أرق مضجع إسرائيل وغولدا مائير أكثر من غيره؟ ممكن. لكنني أعرف شيئاً مؤكداً: غسان علمني أن الحرب مع إسرائيل ليست حرباً عسكرية فحسب، بل هي مقارعة الحجة بالحجة، والرواية بالرواية..
كأني به يقول: "حذارِ أن تتوقفوا عن نشر الحقيقة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.