حركة حماس هي من وضعت شروط هذه الصفقة السياسية، وحكومة نتنياهو هي من قبلت شروط تلك الصفقة السياسية. وبهذا وافق نتنياهو على بنود الصفقة بعدما جلس على طاولة التفاوض غير المباشر مع قادة حماس بحثاً عن حلول عاجلة، وبموجب الصفقة سيكون مقابل الإفراج عن كل أسير إسرائيلي ثلاثة أسرى من الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ليس هذا فحسب، كما استوجبت الصفقة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود في عموم القطاع.
تعاملت حماس ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية مع ملف الأسرى الإسرائيليين بذكاء سياسي غير مسبوق، وأقل ما يوصف بأنه عملي واستراتيجي مرن. وحماس حركت الرأي العام الإسرائيلي وقد وظّفت ضغط عائلات الأسرى ومسيراتهم واحتجاجاتهم على نتنياهو لأهدافها الخاصة، والقادة السياسيون في مجلس الحرب يعلمون جيداً أن السبيل الوحيد لتحرير أسراهم هو التفاوض مع حماس وإنجاز الصفقة بالطرق الدبلوماسية، والعملية العسكرية لم تحقق شيئاً على أرض الواقع ولا يمكن تحرير الأسرى بالعملية العسكرية.
وتعليق الهدنة الإنسانية وعدم البدء في تنفيذها يوم الخميس وتأجيلها ليوم الجمعة وربما أبعد من ذلك هو متوقع؛ نظراً للظروف السياسية المعقدة التي أجريت الصفقة فيها، حتى بعد موافقة الأطراف على شروط الصفقة بقي عدم التفاهم على وقف إطلاق النار في ظل الهدنة هاجساً في جانب الاحتلال، باعتبار عدم تواصل بعض فصائل المقاومة في الشمال مع قادة حماس، وهذا ما يستدعي قلق الاحتلال من خرق الهدنة وتعرض جنودهم للاستهداف، وبالتالي الوقوع في احتمال خرق الهدنة.
ذلك أحد عوامل تأجيل الهدنة.. والعامل الثاني يعود إلى موافقة الأطراف بخصوص تبادل الأسرى الإسرائيليين والإفراج عن الرهائن الفلسطينيين من سجون الاحتلال ضمن أعداد مقسمة على أيام الهدنة الأربعة. وفي اليوم الأول ستطلق حماس عشرة أسرى من الإسرائيليين مقابل إخلاء سبيل الرهائن الفلسطينيين من جانب الاحتلال. وبهذا الشكل يكون تبادل الأسرى بين الأطراف. وربما تتمدد أيام الهدنة لعشرة أيام خالية من إطلاق النار من كلا الطرفين. وتقتضي الصفقة صفة رسمية متمثلة في توقيع جميع الأطراف على وثيقة، وهذا عامل آخر من العوامل التي ساهمت في تأجيل تنفيذ الصفقة وإيقاف إطلاق النار.
التوتر واضح على قادة الاحتلال الإسرائيلي. والضغوطات النفسية تتزايد على نتنياهو وغالانت ومعهما الوزير في مجلس الحرب غانتس. وعدم تسليم رئيس حماس يحيى السنوار لقائمة الأسرى الإسرائيليين المتوقع الإفراج عنهم ضمن صفقة تبادل الأسرى عامل مهم من عوامل عدم ثقة الجمهور الإسرائيلي بنتنياهو وحكومته التي فقدت ثقة أهالي الأسرى، وهذا ما دفع رئيس مجلس الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي هنغبي تأجيل صفقة تبادل الأسرى بين الاحتلال وحركة حماس إلى الجمعة.
عائلات أسرى الاحتلال يشاهدون التلفزيون ويسمعون طموحات غالانت في تدمير حماس والقضاء عليها، وينصتون لخطابات نتنياهو وتأكيده على مواصلة الحرب حتى بعد الهدنة الإنسانية. ولكن تلك الخطابات غير واقعية ولا يمكن تحقيقها. ذلك باعتبار أن الهدنة الإنسانية ستفرض على نتنياهو التركيز على الجبهة الشمالية، خصوصاً أن حزب الله كان غائباً عن المفاوضات بين حماس والاحتلال الإسرائيلي بواسطة الدوحة وواشنطن، وهذا يعني استمرار حزب الله بقصف إسرائيل من الشمال واستهداف بعض المواقع العسكرية. والقصف الإسرائيلي الأخير على جنوب لبنان أدى لمقتل عباس رعد، نجل النائب البرلماني ورئيس كتلة حزب الله، وذلك يدفع نحو اندلاع جبهة الشمال والتوسع في إطلاق صواريخها إلى العمق الإسرائيلي.
وبين الجبهة الشمالية والتركيز عليها واستئناف الحرب في قطاع غزة يتزايد الضغط على نتنياهو. فأنفاق حماس لم يتم تدميرها. والهدف المتعلق بالقضاء عليها بعيد عن الواقع العسكري، وملف الأسرى يلاحق نتنياهو، وإذا نجحت عملية تبادل جزء من الأسرى يبقى الجزء الآخر إجراء ضرورياً لإغلاق الملف. وانتقال جيش الاحتلال إلى جنوب غزة سيشكل عائقاً نظراً لاكتظاظ جنوب غزة بالنازحين والسكان، وذلك يقلل من مواصلة الحرب، ويهدد الاحتلال دولياً في حال ارتكاب مجازر جديدة في جنوب غزة. وقادة جيش الاحتلال لن يسمحوا بذهاب الجنود وترك مواقعهم أثناء الهدنة، والسبب عدم رجوعهم إلى غزة، وذلك يدعو إلى فهم نفسية جنود الاحتلال وضعف صمودهم في مواصلة الحرب وتحقيق أهدافها الخاصة.
وقلق الإدارة الأمريكية له مببرراته، ومع تنفيذ الهدنة ستتوجه الفرق الصحفية والمؤسسات الإعلامية إلى غزة. وهناك ستتحول مدينة غزة المدمرة إلى مادة إعلامية، وستنكشف جرائم الاحتلال للعالم، وسيعلم الجميع جرائم حرب الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة؛ وهذا سيساعد في تفكك السردية التي نسجتها إسرائيل عن نفسها، ومعدل الوفيات في الطواقم الصحفية كان مرتفعاً في هذه الحرب، وتقارير منظمة الصحافة بلا حدود مؤشر قوي على استهداف إسرائيل للصحفيين.
صفقة تبادل الأسرى تعادل عملية طوفان الأقصى. ويحيى السنوار الذي خطط لعملية السابع من أكتوبر هو الذي وضع شروط هذه الصفقة، وهو الذي أجبر نتنياهو وغالانت وغانتس على قبول هذه الصفقة، ولا يوجد خيار آخر خصوصاً والحرب لم تحقق أياً من الأهداف المعلنة. وبينما أجبر السنوار نتنياهو على الجلوس على طاولة المفاوضات وقبول شروط الهدنة وتبادل الأسرى، تواصل عائلات الأسرى ملاحقة نتنياهو المتهم بالفشل في السابع من أكتوبر، والذي بسببه تورط جيشه بالتوغل في قطاع غزة وعادوا منها في أكياس سوداء، ولم تعد أبواب المقابر تخلو لحظة من دفن أجسادهم، ومع فشل القضاء على حماس وعملية السابع من أكتوبر وصفقة تبادل الأسرى سينتهي المستقبل السياسي لنتنياهو، ومع انتهاء الحرب سيلقى القبض عليه..
والآن دعوا السلام يعم على سكان قطاع غزة أثناء الهدنة الإنسانية.. وليتنسم الأطفال والنساء رائحة الحرية بعد سنوات طويلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. واسمحوا بدخول قوافل المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبية والإغاثية، وافتحوا معبر رفح لشاحنات الوقود، وسجلوا في التاريخ قائمة طويلة من الشهداء والأطفال والنساء الذين استشهدوا دفاعاً عن شرفهم وعرضهم وأرضهم وكرامتهم، واستنتجوا حكمة من هذه الحرب الوجودية بأن التفاوض مع الاحتلال لا يكون إلا بأداة القوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.